وإن كان المُصلَّى بأرض "مكة"، وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه؛ فهل له أن يجتهد؟ نظر: إن كان الحائل أصلاً؛ كالجبال، فله الاجتهاد، وإن لم يكن أصلياً؛ كالأبنية فعلى وجهين:
أحدهما: له الاجتهاد؛ لأن بينه وبينها حائلاً يمنع المشاهدة؛ كما في الحائل الأصلي.
والثاني: لا اجتهاد له؛ لأن فرصة الرجوع إلى العين فلا تتغير بالحائل الحادث، وإن كان غائباً عن "مكة"؛ نظر: إن كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة، أو وجد محراباً، أو علامة للقبلة في طريق هي جادة المسلمين، يجب أن يتوجه إليها، ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة؛ لأن هذه العلامات كالنصب، أما في الانحراف يمنة، أو يسرة يجوز أن يجتهد مع هذه العلامات؛ كان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه عن الحج: تياسروا يا أهل مرو.
وكذلك لو أخبره مسلم مكلفٌ عدلٌ عن دليل: بأن قال: رأيت آبائي المسلمين، أو جماعة من المسلمين اتفقوا على هذه الجهة- عليه قبوله؛ سواء كان المخبر رجلاً، أو امرأة، أو عبداً، وليس هذا تقليداً، بل هو قبول الخبر من أهله؛ كما في الوقت لو أخبره عدلٌ: أني رأيت الفجر قد طلع، والشمس قد زالت- يجب قبول قوله؛ ولو أخبره كافرٌ، لا يقبل قوله، ولو أخبره صبيٌّ- حكى الخضري نصاً عن الشافعي؛ أنه لا يقبل، وحكى أبو زيد نصاً؛ أنه يقبل؛ فأخبر به الخضري، فقال المسألة على حالين؛ حيث قال: "يُقبل" أراد به إذا دلَّه على مِحراب، أو أخبر بدليل، وحيث قال: "لا يُقبل" أراد إذا أخبره باجتهاد.
وكان الشيخ القفال يجعل في قبول خبر الصبي وجهين أما خبر الفاسق لا يُقبل.
ولو دخل دار إنسان ولم يعرف القبلة، يستخبر صاحب الدار، ولا يجتهد.
ولو دخل مسجداً بالليل، وكان أعمى، يمسُّ المحراب بيده؛ فصلى إليه جاز؛ فإن وجد في كل جانب حفرة لم يدر أنها المحراب، صبر حتى يتبين أو يخبره مخبرٌ؛ فإن خاف فوات الوقت، صلى إلى أي جهة شاء، ثم أعاد.
وإن كان في مغارة، أو في بلاد الشرك؛ فاشتبهت عليه القبلة- يجتهد لطلب القبلة. وكذلك لو رأى غلاماً في طريق يقل فيه مرور الناس، أو في طريق يمر فيه المسلمون والمشركون؛ فلا يدري من يصيبها، أو رأى محراباً في قرية؛ لا يدري بناه المسلمون، أو المشركون، أو كان في قرية صغيرة للمسلمين اتفقوا على جهة؛ يجوز وقوع الخطأ لأهلها- فإنه يجتهد، والاجتهاد طلب القِبلة بالدليل ودلائل القِبلة: الشمس والقمر والنجوم والرياح؛ فأوهاها الرِّيحُ؛ لأنها تختلف، وأقواها القُطب؛ وهو نجم صغير من بنات النَّعش الصُّغرى