بَابُ الْقَوْلِ فِي مَاهِيَّةِ الِاسْتِحْسَانِ وَبَيَانِ وُجُوهِهِِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ يَكْتَنِفُهُ مَعْنَيَانِ
أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُ الِاجْتِهَادِ وَغَلَبَةُ الرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اجْتِهَادِنَا وَآرَائِنَا، نَحْوُ تَقْدِيرِ مُتْعَةِ الْمُطَلَّقَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} البقرة: 236 ، فَأَوْجَبَهَا عَلَى مِقْدَارِ يَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ، وَمِقْدَارُهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ أَغْلَبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ.
وَنَظِيرُهَا أَيْضًا: نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233 وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَعْرُوفِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} المائدة: 95 . ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمِثْلُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْقِيمَةُ أَوْ النَّظِيرُ مِنْ النَّعَمِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ (فِيهِ) ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْعَدْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِي مَقَادِيرِهَا نَصٌّ، وَلَا اتِّفَاقٌ، وَلَا تُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} البقرة: 282 ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} الطلاق: 2 وَتَعْدِيلُهُمَا وَالْحُكْمُ بِتَزْكِيَتِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.