وَلَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي تَدْبِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى حَاكِمِينَ بِالظَّنِّ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ عَمَّنْ وَصَفْنَا وَلَمْ يَجُزْ إطْلَاقُهُ فِيهِمْ، كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي الْحَرْثِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الأنبياء: 78 إلَى وقَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الأنبياء: 79 . قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ (عَلَى) أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ هُوَ الْمُصِيبُ لِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ دُونَ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ: أَنْ لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الأنبياء: 79 دَلِيلٌ (عَلَى) أَنَّ دَاوُد لَمْ يُفَهَّمْهَا، كَمَا أَنْ لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} النمل: 15 دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وَكَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الفتح: 18 لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، إذْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ.