عراب معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه ليستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقول لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفى أيديهم سياط رقاق، وفى أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فدخلوا عليه.
قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبى فى القادسية ثم حسن إسلامه: لما كان هذا اليوم الذى قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم، فلم أر عشرة قط يعدلون فى الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوغر بعضها بعضا. وجعل أهل فارس يسؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس، وكان سيئ الأدب، فكان أول شىء دار بينه وبينهم أن قال لترجمانه: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان بن مقرن، وكان على الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال:
البرد. قال: فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شىء متطير به عندهم، وتغيرت ألوان فارس، وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فسأله. فقال: النعال، فتطير، أيضا، لمثل ذلك، ثم سأله عن الذى فى يده، فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال:
أحرقوا فارس أحرقهم الله، وكان تطيره على أهل فارس، ثم قال لترجمانه: سلهم ما جاء بكم، وما دعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا؟ فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم، ومن شاء آثرته.
قالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان. فقال إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع لذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه فى دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، ويبدأ بهم ففعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوهم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، وعلى أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، فإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا منكم ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إنى لا أعلم فى الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا