العبادة، وقد أُفْرِدَت الاستعانةٌ هنا عن العبادة في هذا المقام وذكرت معها؛ لكونها وسيلة وطريق مؤد إليها.
وفي بيان فضلها وعظيم منزلتها يقول ابنُ القيِّم -رحمه الله-:
وَسِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْتَهَى إِلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ،
حَتَّى قِيلَ:
أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ
مَعَانِيَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ هَذِهِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ
(١)
، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَمَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِي
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
(الفاتحة: ٥)
.
(٢)
وقد جمعت هذه الآية على وجازتها من الفوائد دررًا، ومن البلاغة كنوزًا،
وسنشير إلى شيء من ذلك:
أولًا:
السرُّ في تقديم ما حقُّه التَّأخير.
فقد قُدِّم المفعولُ على الفعل في الآية وهذا فيه ثلاث فوائد
(٣)
:
الأولى:
فيه أَدَبُ العِبَادِ مَعَ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلَى فِعْلِهِمْ.
الثَّانية:
فِيهِ الِاهْتِمَامُ وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِهِ.
الثَّالثة:
فِيهِ الْإِيذَانُ بِالِاخْتِصَاصِ، الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ،
فَهُوَ فِي قُوَّةٍ:
لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ.
(١) - والمفصل هو ما يلي المثاني من قصار السُّور إلى آخر القرآن، وَهو: مِنَ الْحُجُرَاتِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وسمِّي بالمفصَّل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقلّة المنسوخ منه، ولهذا يسمّى بالمحكم أيضًا، كما روى أحمد في المسند (٢٢٨٣) بسند صحيح عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما، قَالَ: (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ)، ورواه البخاري في صحيحه (٥٠٣٥) ولكن جعله من كلامِ ابنِ جبير-رحمه الله-.
(٢) - وهذ الأثر قد عزاه غير واحد من أهل العلم ونسبه للحسن البصري، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (١٤/ ٧)، وابن عادل الحنبلي في: اللباب في علوم الكتاب (١/ ١٦٤)، والفخر الرازي في تفسيره: مفاتيح الغيب (١/ ١٦٠).
(٣) - مدارج السَّالكين (١/ ٩٨).