وأما لوجه الثاني من تقابل الدليلين واجتماع الحكمين فهو أن لا يمكن استعمالهما ويكون بينهما تناقض فنعلم أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ فيرجع إلى دلائل النسخ فيستدل بها على الناسخ في أثباته وعلى المنسوخ في نفيه واحد دلائله أن يعرف تقدم احد الحكمين على الآخر فيكون المتقدم منسوخا والمتآخر ناسخا والمراد منه أن يكون متقدما في التنزيل دون التلاوة1 فإن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} البقرة: 234 ناسخ لقوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} البقرة: 240 وهو متقدم عليه في التلاوة ومتآخر عنه في التنزيل وقد عدل في كثير من القرآن بترتيب التلاوة عن ترتيب التنزيل بل بحسب ما أمر الله عز وجل لمصلحة استأثر بعلمها.
وقد قيل أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} البقرة:281 وهذه الآية متلوة في سورة البقرة وهي مقدمه على جميع سور القرآن سوى الفاتحة وأول سورة نزلت اقرأ باسم ربك وهى في أوآخر ما يتلى في القرآن.
ودلائل النسخ مع التقدم والتآخر في التنزيل من أوجه كثيرة.
أحدها أن يكون في نظم التلاوة لفظ يدل على النسخ وهذا مثل النسخ الثابت في آية المصابرة على الجهاد وقال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الأنفال: 65 ثم نسخ هذا وقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الأنفال: 66 نص في أن المراد بالآية تخفيف ما تقدم من تغليظه.
والوجه الثاني: أن يرد لفظ يتضمن التنبيه على النسخ وذلك كما نسخ الله تعالى ونقد من الإمساك في البيوت لحد الزنا في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} النساء: 15 بجلد المائة في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} النور: 2 لأن قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} النساء: 15 تنبيه على عدم الاستدامة في الإمساك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.