أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَيْثُ نَحَتُوهَا أَصْنَامًا وَجَعَلُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْأَنْبِيَاءِ: 98 وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسِّرَةٌ لَهَا فَقَوْلُهُ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي مَعْنَى النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ وَحَصَبُ جَهَنَّمَ فِي مَعْنَى وَقُودِهَا وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْكُفَّارُ فِي حِجَارَتِهِمُ الْمَعْبُودَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهَا الشُّفَعَاءُ وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِمْ وَيَسْتَدْفِعُونَ الْمَضَارَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ تمسكاً بهم، وجعلها اللَّهُ عَذَابَهُمْ فَقَرَنَهُمْ بِهَا مُحْمَاةً فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِبْلَاغًا وَإِغْرَابًا فِي تَحَسُّرِهِمْ، وَنَحْوُهُ مَا يَفْعَلُهُ بِالْكَافِرِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا ذَهَبَهُمْ وَفِضَّتَهُمْ عُدَّةً وَذَخِيرَةً فَشَحُّوا بِهَا وَمَنَعُوهَا مِنَ الْحُقُوقِ حَيْثُ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، وَقِيلَ هِيَ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ فِيهِ مَا يدل على فساده، وذلك لأن الغرض هاهنا تَعْظِيمُ صِفَةِ هَذِهِ النَّارِ وَالْإِيقَادُ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ فَلَا يَدُلُّ الْإِيقَادُ بِهَا عَلَى قُوَّةِ النَّارِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْجَارِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ أَمْرِ النَّارِ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَحْجَارِ تُطْفَأُ بِهَا النِّيرَانُ فَكَأَنَّهُ قَالَ تِلْكَ النِّيرَانُ بَلَغَتْ لِقُوَّتِهَا أَنْ تَتَعَلَّقَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مُطْفِئَةٌ لِنِيرَانِ الدُّنْيَا، أَمَّا قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّارَ الْمَوْصُوفَةَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نِيرَانًا أُخْرَى غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ معدة لفساق أهل الصلاة.
سورة البقرة (2) : آية 25وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
الْكَلَامُ في المعاداعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ تَكَلَّمَ بَعْدَهُمَا فِي الْمَعَادِ وَبَيَّنَ عِقَابَ الْكَافِرِ وَثَوَابَ الْمُطِيعِ وَمِنْ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ آيَةً فِي الْوَعِيدِ أن يعقبها بآية في الوعد وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَالْبَحْثُ/ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ عَنْ إِمْكَانِهَا أَوْ عَنْ وُقُوعِهَا، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهُ تَارَةً بِالْعَقْلِ، وَبِالنَّقْلِ أُخْرَى، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كِتَابِهِ وَبَيَّنَ الْحَقَّ فِيهِمَا مِنْ وُجُوهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثِيرًا مَا حَكَى عَنِ الْمُنْكِرِينَ إِنْكَارَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ كَائِنٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ أَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كذلك فجاز إثباته بالنقل، مثاله ما حكم هاهنا بِالنَّارِ لِلْكَفَّارِ، وَالْجَنَّةِ لِلْأَبْرَارِ، وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ دَلِيلًا بَلِ اكْتَفَى بِالدَّعْوَى، وَأَمَّا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ فَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِالدَّعْوَى بَلْ ذَكَرَ فِيهِ الدَّلِيلَ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ النَّحْلِ: 38 وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ التَّغَابُنِ: 7 . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أُمُورٍ تُشْبِهُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَلَى وُجُوهٍ، فَأَجْمَعُهَا مَا جَاءَ فِي