وَحَقِيقَتَهَا الْمَخْصُوصَةَ فَذَاكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَاهِيَّاتِ وَالْحَقَائِقِ مَجْهُولَةٌ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كونها مجهولة نفيها فكذلك هاهنا وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هُودٍ: 97 وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا هُودٍ: 66 أَيْ فِعْلُنَا فَقَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيْ مِنْ فِعْلِ رَبِّي وَهَذَا الْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنَّ الرُّوحَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ فَقَالَ بَلْ هِيَ حَادِثَةٌ وَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى حُدُوثِ الرُّوحِ بِقَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يَعْنِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ ثُمَّ يَحْصُلُ فِيهَا الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ فَهِيَ لَا تَزَالُ تَكُونُ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَفِي التَّبْدِيلِ مِنْ نُقْصَانٍ إِلَى كَمَالٍ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ مِنْ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ فَقَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنَّ الرُّوحَ هَلْ هِيَ حَادِثَةٌ فَأَجَابَ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاقِعَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْأَرْوَاحِ بِتَغَيُّرِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فَهَذَا مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذَكَرِ سَائِرِ الْأَقْوَالِ الْمَقُولَةِ فِي نَفْسِ الرُّوحِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ذَكَرُوا أَقْوَالًا أُخْرَى سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الرُّوحِ هُوَ الْقُرْآنُ قَالُوا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْقُرْآنَ فِي كَثِيرٍ من الآيات روحا واللائق بالروح المسؤول عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ إِلَّا الْقُرْآنَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْرِيرِ مَقَامَيْنِ. الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: تَسْمِيَةُ اللَّهِ الْقُرْآنَ بِالرُّوحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الشُّورَى: 52 وَقَوْلُهُ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ النَّحْلِ: 2 وَأَيْضًا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالرُّوحِ أَنَّ بِالْقُرْآنِ تَحْصُلُ حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ مَلَائِكَتِهِ وَمَعْرِفَةُ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْأَرْوَاحُ إِنَّمَا تَحْيَا بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ وَتَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ النَّحْلِ: 2 ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ اللَّائِقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهُ قَوْلُهُ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِسْرَاءِ: 82 وَالَّذِي تَأَخَّرَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الْإِسْرَاءِ: 86 إِلَى قَوْلُهُ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى / أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً الْإِسْرَاءِ: 88 فلما كان قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا بَعْدَهَا كَذَلِكَ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرُّوحِ الْقُرْآنَ حَتَّى تَكُونَ آيَاتُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مُتَنَاسِبَةً مُتَنَاسِقَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ اسْتَعْظَمُوا أَمْرَ الْقُرْآنِ فَسَأَلُوا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الشِّعْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْكَهَانَةِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ ظَهَرَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ فَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيِ الْقُرْآنُ ظَهَرَ بِأَمْرِ رَبِّي وَلَيْسَ مِنْ جنس كلام البشر. والقول الثاني: أن الروح المسؤول عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ السموات وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَقُوَّةً وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا النَّبَأِ: 38
وَنَقَلُوا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَلَكٌ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ وَجْهٍ، لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ، لِكُلِّ لِسَانٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لُغَةٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِتِلْكَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا وَيَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالُوا وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا أَعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ وَلَوْ شاء أن يبتلع السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ وَمَنْ فِيهِنَّ بِلُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ لِفَعَلَ،
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ