في الشواهد العقلية
اعلم أن المطلوب من هذا الباب معرفة فضيلة العلم ونفاسته وما لم تفهم الفضيلة في نفسها ولم يتحقق المراد منها لم يمكن أن تعلم وجودها صفة للعلم أو لغيره من الخصال فلقد ضل عن الطريق من طمع أن يعرف أن زيداً حكيم أم لا وهو بعد لم يفهم معنى الحكمة وحقيقتها
والفضيلة مأخوذة من الفضل وهي الزيادة فإذا تشارك شيئان في أمر واختص أحدهما بمزيد يقال فضله وله الفضل عليه مهما كانت زيادته فيما هو كمال ذلك الشيء كما يقال الفرس أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو وحسن الصورة فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة لم يقل إنه أفضل لأن تلك زيادة في الجسم ونقصان في المعنى وليست من الكمال في شيء والحيوان مطلوب لمعناه وصفاته لا لجسمه فإذا فهمت هذا لم يخف عليك أن العلم فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الأوصاف كما أن للفرس فضيلة إن أخذته بالإضافة إلى سائر الحيوانات بل شدة العدو فضيلة في الفرس وليست فضيلة على الإطلاق والعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة فإنه وصف كمال الله سبحانه وبه شرف الملائكة والأنبياء بل الكيس من الخيل خير من البليد فهي فضيلة على الإطلاق من غير إضافة
واعلم أن الشيء النفيس المرغوب فيه ينقسم إلى ما يطلب لغيره وإلى ما يطلب لذاته وإلى ما يطلب لغيره ولذاته جميعاً فما يطلب لذاته أشرف وأفضل مما يطلب لغيره والمطلوب لغيره الدراهم والدنانير فإنهما حجران لا منفعة لهما ولولا أن الله سبحانه وتعالى يسر قضاء الحاجات بهما لكانا والحصباء بمثابة واحدة
والذي يطلب لذاته فالسعادة في الآخرة ولذة النظر لوجه الله تعالى
والذي يطلب لذاته ولغيره فكسلامة البدن فإن سلامة الرجل مثلاً مطلوبة من حيث إنها سلامة للبدن عن الألم ومطلوبة للمشي بها والتوصل إلى المآرب والحاجات وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذاً في نفسه فيكون مطلوباً لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضاً بشرف ثمرته وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى
هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتمييز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها هذه فضيلة العلم مطلقاً ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها
وأما فضيلة التعليم والتعلم فظاهرة مما ذكرناه فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلباً للأفضل فكان تعليمه إفادة للأفضل وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة ومنزلاً لمن يتخذها مستقراً ووطناً وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين
وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام
أحدها أصول لا قوام للعالم دونها وهي أربعة الزراعة وهي للمطعم
والحياكة وهي للملبس
والبناء