والإنكار من بين طبقات المنكرين الغافلين فلقد حل عن لساني عقدة الصمت وطوقني عهدة الكلام وقلادة النطق ما أنت مثابر عليه من العمى عن جلية الحق مع اللجاج في نصرة الباطل وتحسين الجهل والتشغيب على من آثر النزوع قليلاً عن مراسم الخلق ومال ميلاً يسيراً عن ملازمة الرسم إلى العمل بمقتضى العلم طمعاً في نيل ما تعبده الله تعالى به من تزكية النفس وإصلاح القلب وتداركاً لبعض ما فرط من إضاعة العمر يائساً عن تمام حاجتك في الحيرة وانحيازاً عن غمار من قال فيهم صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله سبحانه بعلمه (١) ولعمري إنه لا سبب لإصرارك على التكبر إلا الداء الذي عم الجم الغفير بل شمل الجماهير من القصور عن ملاحظة ذروة هذا الأمر والجهل بأن الأمر إد والخطب جد والآخرة مقبلة والدنيا مدبرة والأجل قريب والسفر بعيد والزاد طفيف والخطر عظيم والطريق سد وما سوى الخالص لوجه الله من العلم والعمل عند الناقد البصير رد وسلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكد فأدله الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً حتى ظل علم الدين مندرساً ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام
فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً فقد أصبح من بين الخلق مطوياً وصار نسياً منسياً
ولما كان هذا ثلماً في الدين ملماً وخطباً مدلهماً رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهماً إحياء لعلوم الدين وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند التبيين والسلف الصالحين
وقد أسسته على أربعة أرباع وهي ربع العبادات وربع العادات وربع المهلكات وربع المنجيات
وصدرت الجملة بكتاب العلم لأنه غاية المهم لأكشف أولاً عن العلم الذي تعبد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الأعيان بطلبه إذ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم فريضة على كل مسلم (٢) وأميز فيه العلم النافع من الضار إذ قال صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من علم لا ينفع (٣) وأحقق ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب وانخداعهم بلامع السراب واقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب
ويشتمل ربع العبادات على عشرة كتب كتاب العلم وكتاب قواعد العقائد وكتاب أسرار الطهارة وكتاب أسرار الصلاة وكتاب أسرار الزكاة وكتاب أسرار الصيام وكتاب أسرار الحج وكتاب آداب تلاوة القرآن وكتاب الأذكار والدعوات وكتاب ترتيب الأوراد في الأوقات
(١) حديث أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه رواه الطبراني في الصغير والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف
(٢) حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم رواه ابن ماجه من حديث أنس وضعفه أحمد والبيهقي وغيرهما
(٣) حديث نعوذ بالله من علم لا ينفع رواه ابن ماجه من حديث جابر بإسناد حسن