الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول وهي خمسة ألفاظ الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة فهذه أسام محمودة والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها لشيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم
اللفظ الأول الفقه فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذا خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوي والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها فمن كان أشد تعمقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال هو الأفقه ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ويدلك عليه قوله عز وجل {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم} وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له
وقال تعالى {لهم قلوب لا يفقهون بها} وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديماً وحديثاً
قال تعالى {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله} الآية فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم
وقال صلى الله عليه وسلم علماء فقهاء (١) للذين وفدوا عليه وسئل سعد بن إبراهيم الزهري رحمه الله أي أهل المدينة أفقه فقال أتقاهم لله تعالى فكأنه أشار إلى ثمرة الفقه والتقوى ثمرة العلم الباطني دون الفتاوى والأقضية
وقال صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه قالوا بلى قال من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من مكر الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه (٢) ولما روى أنس بن مالك قوله صلى الله عليه وسلم لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب (٣) قال فالتفت إلى زيد الرقاشي وزياد النميري وقال لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم وعظه على أصحابه ويسرد الحديث سرداً إنما كنا نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله علينا تفقهاً فسمي تدبر القرآن وعد النعم تفقهاً
قال صلى الله عليه وسلم لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله وحتى يرى القرآن وجوهاً كثيرة (٤) وروى أيضاً موقوفاً على أبي الدرداء رضي الله عنه مع قوله ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتاً وقد سأل فرقد السبخي الحسن عن الشيء فأجابه فقال إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن رحمه الله ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت فقيهاً بعينك إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم ولم يقل في جميع في ذلك الحافظ لفروع الفتاوى ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة ولكن كان بطريق
(١) حديث علماء حكماء فقهاء رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد والخطيب في التاريخ من حديث سويد بن الحارث بإسناد ضعيف
(٢) حديث ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه الحديث رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق وأبو بكر بن السني وابن عبد البر من حديث علي وقال ابن عبد البر أكثرهم يوقفونه عن علي
(٣) حديث أنس لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن
(٤) حديث لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله الحديث أخرجه ابن عبد البر من حديث شداد بن أوس وقال لا يصح مرفوعا