عليه السلام لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء
وفي لفظ آخر من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ومن منعها أهلها فقد ظلم إن للحكمة حقاً وإن لها أهلاً فأعط كل ذي حق حقه
وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضاً حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضاً من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهر المصنف في الرد على الباطنية
ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أنه إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان
وفي قوله تعالى {وأن ألق عصاك} أي ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه
وفي قوله صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة (١) أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى يحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعاً كتنزيل فرعون على القلب فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له وكأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه وكذا حمل السحور على الاستغفار فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتناول الطعام ويقول تسحرو (٢) وهلموا إلى الغذاء المبارك (٣) فهذه أمور يدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلاً وبعضها يعلم بغالب الظن وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم فلا يظهر لقوله صلى الله عليه وسلم من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (٤) معنى إلا هذا النمط وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه فيستجر شهادة القرآن إليه ويحمله عليه من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية أو نقلية ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب أن لا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة
ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع فيكون ذلك مستنبطاً بحسن الفهم وطول الفكر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل (٥)
(١) حديث تسحروا فإن في السحور بركة متفق عليه من حديث أنس
(٢) حديث تناول الطعام في السحور رواه البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحرا
(٣) حديث هلموا إلى الغذاء المبارك رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث العرباض بن سارية وضعفه ابن القطان
(٤) حديث من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه وهو عند أبي داود من رواية ابن العبد وعند النسائي في الكبرى
(٥) حديث اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل قاله لابن عباس رواه البخاري من حديث ابن عباس دون قوله وعلمه التأويل وهو بهذه الزيادة عند أحمد وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد