وقال صلى الله عليه وسلم إن العالم ليعذب عذاباً يطيف به أهل النار استعظاماً لشدة عذابه (١) أراد به العالم الفاجر
وقال أسامة بن زيد سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون ما لك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه (٢) وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى من علم ولذلك قال الله عز وجل إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار لأنهم جحدوا بعد العلم وجعل اليهود شراً من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولداً ولا قالوا إنه ثالث ثلاثة إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة إذ قال الله يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقال تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين وقال تعالى في قصة بلعام بن باعوراء واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين حتى قال فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فكذلك العالم الفاجر فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات
وقال عيسى عليه السلام مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى فهذه الأخبار والآثار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالاً وأشد عذاباً من الجاهل
وأن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر
فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل
فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخر فكيف يعد من زمرة العلماء ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً يا داود من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً ولذلك قال الحسن رحمه الله عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة
ولذلك قال يحيى بن معاذ إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء
(١) حديث إن العالم يعذب عذاباً يطيف به أهل النار الحديث لم أجده بهذا اللفظ وهو معنى حديث أسامة المذكور بعده
(٢) حديث أسامة بن زيد يؤتى بالعالم يوم القيامة ويلقى في النار فتندلق أقتابه الحديث متفق عليه بلفظ الرجل {بدل} العالم