وكثيرها وكما يجتنب قليل السموم وكثيرها فكذلك يجتنب المعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها فاليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة في الحركات والسكنات الخطرات والمبالغة في التقوى والتحرز عن كل السيئات وكلما كان اليقين أغلب كان الاحتراز أشد والتشمير أبلغ
ومن ذلك اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول وهو عدم الشك وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون وثمرته أن يكون الإنسان في خلوته متأدباً في جميع أحواله كالجالس بمشهد ملك معظم ينظر إليه فإنه لا يزال مطرقاً متأدباً في جميع أعماله متماسكاً محترزاً عن كل حركة تخالف هيئة الأدب ويكون في فكرته الباطنة كهو في أعماله الظاهرة إذ يتحقق أن الله تعالى مطلع على سريرته كما يطلع الخلق على ظاهره فتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيينه بعين الله تعالى الكائنة أشد من مبالغته في تزيين ظاهره لسائر الناس وهذا المقام في اليقين يورث الحياء والخوف والانكسار والذل والاستكانة والخضوع وجملة من الأخلاق المحمودة وهذه الأخلاق تورث أنواعاً من الطاعات رفيعة فاليقين في كل باب من هذه الأبواب مثل الشجرة وهذه الأخلاق في القلب مثل الأغصان المتفرعة منها وهذه الأعمال والطاعات الصادرة من الأخلاق كالثمار وكالأنوار المتفرعة من الأغصان فاليقين هو الأصل والأساس وله مجار وأبواب أكثر مما عددناه وسيأتي ذلك في ربع المنجيات إن شاء الله تعالى
وهذا القدر كاف في معنى اللفظ الآن
ومنها أن يكون حزيناً منكسراً مطرقاً صامتاً يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكرا لله تعالى وكانت صورته دليلاً على عمله فالجواد عينه مرآته وعلماء الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع وقد قيل ما ألبس الله عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهي لبسة الأنبياء وسيما الصالحين والصديقين والعلماء وأما التهافت في الكلام والتشدق والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق فكل ذلك من آثار البطر والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه وهو دأب أبناء الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به وهذا لأن العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمة الله عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم عموم المؤمنين وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه
وقال عمر رضي الله عنه تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم
ويقال ما آتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك هو العلم النافع
وفي الأثر من آتاه الله علماً وزهدا وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين
وفي الخبر إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ويبكون سراً من خوف عذابه أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة يتمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة (١) وقال الحسن الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله
وقال بشر بن الحارث من طلب
(١) حديث إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ويبكون سراً من خوف عذابه الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه من حديث عياض بن سليمان