لا يعرف الشر لا يعرف الخير
وفي لفظ آخر كانوا يقولون يا رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا يسألونه عن فضائل الأعمال وكنت أقول يا رسول الله ما يفسد كذا وكذا فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم
وكان حذيفة رضي الله عنه أيضاً قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه ودقائق الفتن فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة رضي الله عنهم يسألونه عن الفتن العامة والخاصة وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ولا يخبر بأسمائهم وكان عمر رضي الله عنه يسأل عن نفسه هل يعلم فيه شيئاً من النفاق فبرأه من ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعى إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلى عليها وإلا ترك وكان يسمى صاحب السر
فالعناية بمقامات القلب وأحواله دأب علماء الآخرة لأن القلب هو الساعي إلى قرب الله تعالى وقد صار هذا الفن غريباً مندرساً وإذا تعرض العالم لشيء منه استغرب واستبعد وقيل هذا تزويق المذكرين فأين التحقيق ويرون أن التحقيق في دقائق المجادلات ولقد صدق من قال
الطرق شتى وطرق الحق مفردة ... والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدري مقاصدهم ... فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم ... فجلهم عن سبيل الحق رقاد
وعلى الجملة فلا يميل أكثر الخلق إلا إلى الأسهل والأوفق لطباعهم فإن الحق مر والوقوف عليه صعب وإدراكه شديد وطريقه مستوعر ولا سيما معرفة صفات القلب وتطهيره عن الأخلاق المذمومة فإن ذلك نزع للروح على الدوام وصاحبه ينزل منزلة الشارب للدواء يصبر على مرارته رجاء الشفاء وينزل منزلة من جعل مدة العمر صومه فهو يقاسي الشدائد ليكون فطره عند الموت ومتى تكثر الرغبة في هذا الطريق ولذلك قيل إنه كان في البصرة مائة وعشرين متكلماً في الوعظ والتذكير ولم يكن من يتكلم في علم اليقين وأحوال القلوب وصفات الباطن إلا ثلاثة منهم سهل التستري والصبيحي وعبد الرحيم وكان يجلس إلى أولئك الخلق الكثير الذي لا يحصى وإلى هؤلاء عدد يسير قلما يجاوز العشرة لأن النفيس العزيز لا يصلح إلا لأهل الخصوص وما يبذل للعموم فأمره قريب
ومنها أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره وإنما المقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله وإنما يقلد الصحابة رضي الله عنهم من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ إذا قلد صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في تلقي أقواله وأفعاله بالقبول فينبغي أن يكون حريصاً على فهم أسراره فإن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم فعله وفعله لا بد وأن يكون لسر فيه فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالماً
ولذلك كان يقال فلان من أوعية العلم فلا يسمى عالماً إذا كان شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار
ومن كشف عن قلبه الغطاء واستنار بنور الهداية صار في نفسه متبوعاً مقلداً فلا ينبغي أن يقلد غيره
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالفهما في الفقه
(١) حديث ابن عباس ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الطبراني من حديثه يرفعه بلفظة من قوله ويدع