أقسام التوحيد وتقرير رجوع الدين كله إليها
قال رحمه الله: وإذا كان كذلك فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل.
وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دل على ذلك سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص:١، ودل على الآخر سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} الكافرون:١، وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك.
قصد الشيخ بهذا الكلام: تقرير معنى كون التوحيد كله أو الدين كله يرجع إلى هذين الأصلين: الأول: توحيد العبادة، وسماه بـ: (توحيد القصد والإرادة والعمل)، وهذا وصف لهذا النوع من التوحيد قد سبق تقريره، كما سيأتي تقرير بأننا إذا استقرأنا معاني التوحيد، سواء في منشئها من الكتاب والسنة، أو في تطبيقها في أحوال البشر، أنه يمكن أن نقسمها إلى عدة أقسام، فممكن أن تكون في قسمين، وممكن أن تكون في ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، وهذا التقسيم تقسيم علمي استقرائي، وعليه يمكن أن نقول: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد علمي، وتوحيد عملي، أو نقول: توحيد ربوبية، وتوحيد إلهية، أي: توحيد إرادي طلبي، وهو ما ينشأ عن البشر من الإرادة والطلب، وتوحيد خبري.
وكل ذلك يرجع إلى أن التوحيد ممكن أن يقسم في التقسيم الأساسي إلى نوعين من الناحية العلمية، وهذا التقسيم لا يلزم، فيمكن أن نقسم كل قسم أيضاً إلى أقسام، لكن هذا كما قلت: تقسيم علمي استقرائي، ولذا فإن المتأمل إلى أنواع أوامر الشرع أو المتأمل لأنواع الوحي فيما يتعلق بالتوحيد يجد أنها على نوعين: نوع من التوحيد هو خبر، يعني: علم، وهو أن الله علمنا الكثير من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بربوبيته وقدره، والأمور التي قد تدركها أو يدرك بعضها شيئاً من الفطر والعقول، وبعضها لا يدرك تفصيلاً إلا بالخبر، كأسماء الله وصفاته، فإن تفصيلات كثير منها لا نعلمه إلا بالخبر الذي جاءنا من عند الله، وعليه فتوحيد الربوبية كثير منه جاء بالخبر، ويدخل فيه أيضاً توحيد الأسماء والصفات، وهو علم عن أمور الغيب قد أخبرنا الله به.
ومن هنا سمي توحيد علمي وتوحيد خبري، وهذا اصطلاح راجع إلى معان، ويمكن أيضاً أن نتجاوز هذا الاصطلاح إلى معنى أوسع أو إلى معان أكثر دقة أو أكثر تفصيلاً، وهذا هو الأصل، فلابد من الإيمان به دون الخوض فيما لا تطيقه العقول.
الثاني: توحيد الطلب، أي: ما يطلب منا؛ فنحن قد علمنا بالفطرة مجملات توحيد الربوبية، وعلمنا بالوحي تفصيلات توحيد الربوبية والأسماء والصفات لله عز وجل، هذا العلم يتطلب منا أمراً آخر يسمى: توحيد الألوهية، وهو أن نعبده بما شرع، وأن نوجه له الدعاء والذكر والصلاة وجميع أنواع العبادات، ولذلك سمي بالتوحيد الطلبي، أي: توحيد القصد.
والمقصود بالقصد: أن العباد يقصدون به الله عز وجل، لكن لا يقصد الله عز وجل إلا بما شرع هو، ومن هنا رجع إلى كونه يدخل في الشرع كما دخل توحيد الربوبية في العلم.
كما يسمى أيضاً بتوحيد الإرادة؛ لأن الناس يريدون به الله عز وجل.
ويسمى بتوحيد العمل؛ لأنه مقتضى العمل المبني على المعرفة، وهو عمل القلوب والجوارح بالتوجه إلى الله عز وجل، ويسمى بتوحيد الشرع، وتوحيد الأمر.
وعليه فهذه كلها ألفاظ صحيحة، لو اقتصرنا على بعضها صح، ولو أخذناها كلها صح، ولو أجملناها بتوحيد الإلهية صح.
إذاً: فالتوحيد قسمان: قسم يرد من الله عز وجل من خلال الوحي، وهو توحيد الربوبية المسمى بالعلمي، وإن كان بعضه يعلم بالفطرة، لكن تفاصيله لا تعلم إلا بالوحي، وحتى العلم بالفطرة هو علم ركبه الله في العباد، ويسمى هذا: (توحيد علمي خبري) كما ذكرنا.
والقسم الآخر: وهو التوحيد الإرادي القصدي العملي، أي: توحيد الإلهية الذي يتلخص في الشرع.