وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحكمَ مَنْسُوخ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تتفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
السَّبَبُ الْأوّلُ: أَلَّا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَد بَلَغَهُ.
وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِن أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ؛ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَلَا يَقُولَن قَائِل: الْأَحَادِيثُ قَد دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ، فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنةٍ.
ثُمَّ لَو فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدٍ.
بَل قَد يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا، بَل الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِيرٍ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُم وَصَحَّ عِنْدَهُم قَد لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَن مَجْهُولٍ، أَو بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، أَو لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَت دَوَاوِينُهُم صُدُورَهُم الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَن عَلِمَ الْقَضِيَّةَ.
وَلَا يَقُولَنَّ قَائِل: مَن لَمْ يَعْرِفِ الْأحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُن مُجْتَهِدًا؛ لِأنَّهُ إن اُشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِعْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ: فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مُجْتَهِدٌ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنَ التَّفْصِيلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَد يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ.
السَبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَد بَلَغَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ.