يُقَالُ ذَلِكَ لِمَن اتَّصَفَ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ مِن حُدُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا قُلْنَ لِيُوسُفَ: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} يوسف: ٣١.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ"، أَو: "إنَّمَا الرّبَا فِي النَّسِيئَةِ"؛ فَإِنَّمَا الرِّبَا الْعَامّ الشَامِلُ لِلْجِنْسَيْنِ وَللْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُتَّفِقَةِ صِفَاتُهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي النَّسِيئَةِ، وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَلَا يَكُون إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ إلَّا إذَا اخْتَلَفَت الصِّفَاتُ؛ كَالْمَضْرُوبِ بِالتِّبْرِ وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ.
فَأمَّا إذَا اسْتَوَت الصِّفَاتُ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلهذَا شُرعَ الْقَرْضُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِن نَوْعِ التَبّرُّعِ.
فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الرِّبَا وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرآنُ أَوَّلًا وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَهُوَ رِبَا النَّسَاءِ: قِيلَ إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ.
وَأَيْضا رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِأنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ، فَالرِّبَا الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ رِبَا النَّسِيئَةِ فَلَا رِبَا إلَّا فِيهِ.
فَإِنَّ الْكَلَامَ الْخَبَرِيّ: إمَّا إثْبَات وَإِمَّا نَفْيٌ، فَكَمَا أَنَّهُم فِي الْإِثْبَاتِ يُثْبِتُونَ لِلشَّيءِ اسْمَ الْمُسَمَّى إذَا حَصَلَ فِيهِ مَقْصُودُ الِاسْمِ، وَإِن انْتَفَتْ صُورَةُ الْمُسَمَّى، فَكَذَلِكَ فِي النَّفْي، فَإِنَّ أَدَوَاتِ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الِاسْمِ بِانْتِفَاءِ مُسَمَّاهُ (١)، فَكَذَلِكَ تَارَة؛ لِأنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا، وَتَارَةً لِأنَّهُ لَمْ تُوجَد الْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْمُسَمَّى، وَتَارَةً لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، وَتَارَةً لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، بَل الْمَقْصُودُ غَيْرُهُ، وَتَارَةَ لِأسْبَاب أُخَرَ.
وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَظْهَرُ مِن سِيَاقِ الْكلَامِ وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِن الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا تُخْرِجُهَا عَن كَوْنِهَا حَقِيقَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلكَوْنِ الْمُرَكَّبِ قَد صَارَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَو مِن الْقَرَائِنِ الْحَاليَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
(١) فإذا كان الآدمي لا يحمل معاني الإنسانية من الرحمة والشفقة ونفع الناس، فيجوز نفي الاسم عنه، لانتفاء المسمى عنه.