فَالْمُعْطِي: هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ وَحَرَّكَ قَلْبَهُ لِعَطَاءِ غَيْرِهِ (١).
فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ (٢).
وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم- لِابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: "إِذا سَألْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَد كتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَد كَتَبَة اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقلَامُ وَجَفت الصُّحُفُ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ (٣): هَذَا حَدِيث صَحِيحُ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَغ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا اللهُ، وَلَا يَضُرُّ غَيْرُهُ، وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي مُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ.
فَمَن سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْعَظِيمَ:
أ - اسْتَرَاحَ مِن عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَنَظَرِهِ إلَيْهِمْ (٤).
ب- وَأَرَاحَ النَّاسَ مِن لَوْمِهِ وَذَمِّهِ إيَّاهمْ (٥).
ت- وَتَجَرَّدَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ، فَقَوِيَ إيمَاُنهُ، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ، وَتَنَوَّرَ قَلْبُهُ، وَمَن تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُة.
وَلهَذَا قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ-رحمه الله-: مَن عَرَفَ النَّاسَ اسْتَرَاحَ.
(١) والمعنى: أنَّ الْمُعْطِي من البشر: إنما الذي أعطاه وأغناه ربه -سبحانه وتعالي-، وهو سبحانه الَّذِي حَرَّكَ قَلْبَهُ لِعَطَاءِ غَيْرهِ؛ فالواجب أن يصرف المسلم الشكر الخالص، والثناء والحمد لله تعالى أولًا قبل شكر من أَعطاه من البشر، ثم بعد ذلك يُكافئه بالشكر والثناء الحسن.
(٢) كم يُرسخ كلام الشيخ -رحمه الله- العقيدة الصحيحة في قلب من يقرأ له، وكم يزرع في القلب محبة الله والتوكل عليه، وعبادته وحده واستعانته به، وصرف الثناء والشكر والحمد له وحده تعالى.
(٣) (٢٥١٦).
(٤) فيسترح من مُراءاتهم، وانتظارِ مدحهم وخوفِ ذمِّهم.
(٥) لأنه أيقن أن الله تعالى هو الذي بيده مقاليد الأمور، وهو الذي بيده قلوب عباده، فإن شاء صرف بعضها له، وإن شاء صرفها عنه، فلا ينفع الانشغال بلوم المسيء والتشفي منه.