وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِن الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ (١)؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ مِن فُضولِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللّهَ تعالى نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا.
فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ: اخْتِلَافُهُم فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. ٣٤٤ - ٣٤٥
١٤١٠ - مَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ: لَمْ يَكُن بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّة عَلَى بَعْضٍ.
وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَن بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نقِلَ عَن بَعْضِ التَّابِعِينَ (٢)؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَو مِن بَعْضِ مَن سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛ وَلأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِن نَقْلِ التَّابِعِينَ، وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَكيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَد نُهُوا عَن تَصْدِيقِهِمْ؟
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْل هَذَا الاِخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ، وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِن الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا "الْقِسْمُ الْأَوَّلُ" الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَللهِ الْحَمْدُ، فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَن نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِ مِن الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِم وَسَلَامُهُ، وَالنَّقْلُ
(١) الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ صَحِيحِهِ مِن ضَعِيفِهِ.
(٢) قال العلَّامة محمد رشيد رضا رحمه الله، معلِّقًا على كلامه: فأَنْتَ تَرَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - مِن ذَلِكَ، وَإَنَّمَا قَالَ: إِنَّ النَّفْسَ إِلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا يُنْقَلُ عَنِ التَّابِعَيْنِ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَ مَن أطْلَقَ الْحُكْمَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ الصَّحَابِي الثِّقَةُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالاِسْتِدْلَالِ بَل بِالنَّقْلِ لَهُ حُكُمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. اهـ. تفسير المنار (١/ ١٠).