فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالرِّبِّيُّونَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ: الَّذِينَ مَا وَهَنُوا وَمَا ضَعُفُوا.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ (١) فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُوَافِقُ الْأَوَّلَ؛ أَي: الرِّبِّيُّونَ يُقْتَلُونَ فَمَا وَهَنُوا؛ أَيْ: مَا وَهَنَ مَن بَقِيَ مِنْهُم لِقَتْلِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ؛ أَيْ: مَا ضَعُفُوا لِذَلِكَ وَلَا دَخَلَهُم خَوَرٌ وَلَا ذَلُّوا لِعَدُوِّهِمْ، بَل قَامُوا بِأَمْرِ اللهِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى أَدَالَهُم اللهُ عَلَيْهِم وَصَارَتْ كلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.
وَالثانِي: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَمَا وَهَنَ مَن بَقِيَ مِنْهُم لِقَتْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهَذَا يُنَاسِبُ صرح الشَّيْطَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَد قُتِلَ.
لَكِنَّ هَذَا لَا يُنَاسِبُ لَفْظَ الْآيَةِ؛ فَالْمُنَاسِبُ أَنَّهُم مَعَ كَثْرَةِ الْمُصِيبَةِ مَا وَهَنُوا.
وَأَيْضًا: فَقَوْلُهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} يَقْتَضِي كَثْرَةَ ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قُتِلُوا فِي الْجِهَادِ.
وَأَيْضًا: فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمَقْتُولِينَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ؛ فَإِنَّ مَن قَبْلَ مُوسَى مِن الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ، وَمُوسَى وَأَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ يُقْتَلُوا فِي الْغَزْوِ، بَل وَلَا يُعْرَفُ نَبِيٌّ قُتِلَ فِي جِهَادٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَثيرًا؟ وَيَكُونُ جَيْشُهُ كَثِيرًا؟.
وَقَد قِيلَ فِي: {رِبِّيُّونَ} هُنَا: إنَّهُم الْعُلَمَاءُ، وهؤلاء جعلوا لفظ "الرِّبِّي" كلفظ "الربَّاني" (٢)، وَعَن ابْنِ زَيْدٍ: هُم الْأَتْبَاعُ؛ كَأَنَّهُ جَعَلَهُم المربوبين.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قِيلَ: إنَّ الرَّبَّانِيَّ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ، فَزِيَادَةُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ كَاللّحْيَانِيِّ (٣)،
(١) وهم: نافع وابن كثير ويعقوب، حيث قرؤوا: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} بضم القاف وكسر التاء.
(٢) ما بين المعقوفتين من جامع المسائل (٣/ ٦٢)، وفي الأصل: "فَلَمَّا جَعَلَ هَؤُلَاءِ هَذَا كَلَفْظِ الرَّبَّانيِّ"، ويظهر أنَّ المثبت هو الصواب.
(٣) اختار هذا القول العلَّامة محمد رشيد رضا. تفسير المنار (٤/ ١٤١).