وَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، وَذَلِكَ أنَّه لَمَّا كَانَت الْعَادَةُ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُفْعَلُ عَلَانِيَةً بَل سِرًّا، فَيَتَعَذَّرُ إقَامَة الْبَيّنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤخَذَ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا، أُخِذَ بِقَوْلِ مَن يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ، فَمَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ جَانِبُ الْمُنْكِرِ رَاجِحٌ، أَمَّا إذَا كَانَ قَتْلٌ وَلَوْثٌ قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ.
وَكَذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْعَادَةِ، وَمَن يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ فَقَد لَا يَتَوَرَّعُ عَن الْكَذِبِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُن لَوْثٌ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، أَمَّا إذَا ظَهَرَ لَوْثٌ، بأَنْ يُوجَدَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَهُ (١): فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيأْخُذُ.
وَكَذَلِكَ لَو حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ مَن اشْتَرَاهُ أَو اتَّهَبَهُ أَو أَخَذَهُ مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا اللَّوْثَ فِي تَغْلِيبِ الظَّنِّ أَقْوَى؛ لَكِنْ فِي الدَّمِ قَد يَتيقَّنُ الْقَتْلُ وَيشُكُّ فِي عَيْنِ الْقَاتِلِ؛ فَالدَّعْوَى إنَّمَا هِيَ بِالتَّعْيِينِ.
وَأَمَّا فِي دَعْوَى الْخِيَانَةِ: فَلَا تُعْلَمُ الْخِيَانَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْمَالِ الْمُتَّهَمِ بِهِ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَو مَن قَبَضه مِنْهُ: ظَهَرَ اللَّوْثُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمُدَّعِي، فَإِنَّ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَعِيدٌ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ" (٢)، جَمَعَ فِيهِ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، فَكَمَا أَنَّ الدِّمَاءَ إذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي لَوْثٌ حَلَفَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ، كَمَا حَلَّفْنَاهُ مَعَ شَاهِدِهِ.
فَكُلُّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِهِ. ١٤/ ٤٨٤ - ٤٨٧
١٤٧٩ - قَالَ تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} المائدة: ٤٨ أَمَرَهُ -تعالى- أَنْ
(١) أي: عند المدَّعى عليه.
(٢) رواه البخاري (٤٥٥٢)، ومسلم (١٧١١).