وَلَمَّا طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُرِيدَ قَتْلُهُ -بَعْدَمَا أُنْضِجَتْ لَهُ الْقُدُورُ، وَقُلِّبَتْ لَهُ الْأُمُورُ- اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ لِوَدَاعِهِ، وَقَالُوا: قَد تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ بِأنَّ الْقَوْمَ عَامِلُونَ عَلَى قَتْلِكَ.
فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ أبَدًا، قَالُوا: أفَتُحْبَسُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَطُول حَبْسِي، ثُمَّ أَخْرُجُ وَأَتَكَلَّمُ بِالسُّنَّةِ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَلَمَّا تَوَلَّى عَدُوُّهُ الْمُلَقَّبُ بِالْجَاشِنْكيرِ (١) الْمُلْكَ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: الْآنَ بَلَغَ مُرَادَة مِنْكَ، فَسَجَدَ للهِ شُكْرًا وَأطَالَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا سَبَبُ هَذِهِ السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: هَذَا بِدَايَةُ ذُلِّهِ وَمُفَارَقَةُ عِزِّهِ مِنَ الْآنِ، وَقُرْبُ زَوَالِ أمْرِهِ، فَقِيلَ: مَتَى هَذَا؟ فَقَالَ: لَا تُرْبَطُ خُيُولُ الْجُنْدِ عَلَى الْقُرْطِ حَتَّى تُغْلَبَ دَوْلَتُهُ، فَوَقَعَ الْأمْرُ مِثْلَ مَا أخْبَرَ بِهِ، سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ مَرَّةً: يَدْخُلُ عَلَيَّ أَصْحَابِي وَغيْرُهُمْ، فَأرَى فِي وُجُوهِهِمْ وَأعْيُنِهِمْ أمُورًا لَا أَذْكُرُهَا لَهُمْ.
فَقُلْتُ لَهُ -أَوَ غَيْرِي-: لَوْ أخْبَرْتَهُمْ؟ فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ انْ أَكُونَ مُعَرِّفًا كَمُعَرِّفِ الْوُلَاةِ؟
وَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: لَوْ عَامَلْتَنَا بِذَلِكَ لَكَانَ أَدْعَى إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ.
فَقَالَ: لَا تَصْبِرُونَ مَعِي عَلَى ذَلِكَ جُمُعَةً، أوْ قَالَ: شَهْرًا.
وَأَخْبَرَنِي غَيْرَ مَنْ مَرَّةٍ بَاطِنَةٍ تَخْتَصُّ بِي مِمَّا عَزَمْتُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانِي.
(١) هو: المظفر الجاشنكير بيبرس، وكان يُدني المبتدعة من الاتحادية والحلولية والصوفية.
وكان الشيخ تقي الدين يَنَالُ مِنَ الْجَاشْنكِيرِ، وَمِن شَيْخِهِ نَصْر الْمَنْبِجيِّ، ويقُولُ: زَالَتْ أَيَّامُهُ، وَانْتَهَتْ رِياسَتُهُ، وَقَرُبَ انْقِضَاءُ أجْلِهِ، وَيَتكَلَّمُ فِيهِمَا وَفي ابْنِ عَرَبِيٍّ وأتْبَاعِهِ.
ولم يُخيب الله تعالى ظن الشيخ، فعاد الملك المنصور قلاوون إلى الملك سَنَة تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وزالت دولة الْجَاشْنكِيرِ، وخُذل هو وشيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي.