فَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَد أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ؛ كَالثَّعْلَبِيِّ والبغوي وَاللَّفْظُ للبغوي قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِن مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ، وَفيهَا أَسْئِلَةٌ أَوَّلُهَا: قَالُوا: قَد قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ}؛ أَيْ: لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عِبَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ: {لَمَنْ ضَرُّهُ}؛ أَيْ: ضَرُّ عِبَادَتِهِ.
قُلْت: هَذَا جَوَابٌ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ جَوَابًا غَيْرَ هَذَا.
فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} هُوَ نَفْيٌ لِكوْنِ الْمَدْعُوِّ الْمَعْبُودِ مِن دُونِ اللهِ يَمْلِكُ نَفْعًا أَو ضُرًّا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ: الْمَنْفِيُّ قُدْرَةُ مَن سِوَاهُ عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} فَنَقُولُ أَوَّلًا: الْمَنْفِيُّ هُوَ فِعْلُهُم بِقَوْلِهِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ}، وَالْمُثْبَتُ اسْمٌ مُضَافٌ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يَضُرُّ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْفَعُ؛ بَل قَالَ: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} وَالشَّيءُ يُضَافُ إلَى الشَّيءِ بِأدْنَى مُلَابَسَةٍ، فَلَا يَجِبُ أنْ يَكُونَ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ الْمُضَافَيْنِ مِن بَابِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ (١)، بَل قَد يُضَافُ الْمَصْدَرُ مِن جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا كَمَا تُضَافُ سَائِرُ الْأسْمَاءِ، وَقَد يُضَافُ إلَى مَحَلِّهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَسَبَبِ حُدُوثهِ وَإِن لَمْ يَكُن فَاعِلًا؛ كَقَوْلِهِ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} سبأ: ٣٣، وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ الْمَعْبُودِ مِن دُونِ اللهِ وَبَيْنَ ضَرَرِ عَابِدِيهِ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَن شَرُّهُ أَقْرَبُ مِن خَيْرِهِ وَخَسَارَتُهُ أَقْرَبُ مِن رِبْحِهِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا.
وَلَو جُعِلَ هُوَ فَاعِلَ الضُّرِّ بِهَذَا لِأنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ، لَا لأنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ الضَّرَرَ وَهَذَا كَقَوْلِ الْخَلِيلِ عَنِ الْأَصْنَامِ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} إبراهيم: ٣٦، فَنُسِبَ الْإِضْلَال إلَيْهِنَّ وَالْإِضْلَالُ هُوَ ضَرَرٌ لِمَن أَضْلَلْنَهُ. ١٥/ ٢٦٩ - ٢٧٤
(١) فالأصنام لا تضر بنفسِها.