وَهَذَا فِي الْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ: فَإِنَّهُم وَإِن لَمْ يَتَوَالَدُوا بِالتَّنَاسُلِ، فَلَهُم الْأَمْثَالُ وَالأشْبَاهُ، وَلهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} الذاريات: ٤٩، ٥٠ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَعَلَّكُمْ تَتَذَكَّرُونَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاج وَاحِدٌ.
وَلهَذَا كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّدُّ عَلَى مَن كَفَرَ مِن الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئينَ وَالْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ.
فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لَمْ يَلِدْ} الإخلاص: ٣ رَدٌّ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِن الْمَلَائِكَةِ أَو الْبَشَرِ؛ مِثْلُ مَن يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، أَو يَقُولُ: الْمَسِيحُ أَو عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا: الْمَسِيح ابْنُ اللهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ: لَمْ يُرِدْ عُقَلَاؤُهُم وِلَادَةً حِسِّيَّةً مِن جِنْسِ وِلَادَةِ الْجَيَوَانِ بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِن ذَكَرِهِ فِي أُنْثَاهُ يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، مَا أَظُنُّ عُقَلَاؤُهُمْ (١) كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَصَفُوا الْوِلَادَةَ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ، مِثْل مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى: إنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ اللهُ مِن وَجْهٍ، وَهُوَ الْكَلِمَةُ مِن وَجْهٍ، تَدَرَّعَتْ بِإِنْسَان مَخْلُوقٍ مِن مَرْيَمَ، فَيَقُولُونَ: تَدَرَّعَ اللَّاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ، فَظَاهِرُهُ -وَهُوَ الدِّرْعُ وَالْقَمِيصُ- بَشَرٌ، وَبَاطِنُهُ -وَهُوَ الْمُتَدَرِّعُ- لَاهُوتٌ، هُوَ الِابْنُ، الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، لِتَوَلُّدِ هَذَا مِن الْأبِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ الْوُجُودِ.
فَهَذِهِ الْبُنُوَّةُ مُرَكَّبَةٌ عِنْدَهُم مِن أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ تُولَّدَ مِن الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ؛ كَتَوَلُّدِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ مِن الْعَالِمِ الْقَائِلِ.
(١) هكذا في جميع النسخ التي وقفتُ عليها، ولعل الصواب بالنضب: عُقَلَاءَهُمْ؛ لأنها مفعول ظن، والهمزة المفتوحة إذا سُبقت بألف تُكتب على السطر.