فَمَن قَالَ: إنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّة يَخصُّ بِهِ الْعُمُومَ خَصَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" بِمَفْهُومِ: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الْخَبَثَ"، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ أَضْعَفُ مِن مَفْهُومِ الصِّفَةِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا.
وَمَنِ امْتَنَعَ مِن ذَلِكَ قَالَ: قَوْلُهُ: "الْمَاءُ طَهُورٌ" عَامٌّ، وَقَوْلُهُ: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجَّسْ" هُوَ بَعْضُ ذَلِكَ الْعَامِّ، وَهُوَ مُوَافِق لَهُ فِي حُكْمِهِ، فَلَا تُتْرَكُ دَلَالَةُ الْعُمومِ لِهَذَا.
وَقَد اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَاتَيْنِ الدَّلَالَتَيْنِ (١) إذَا تَعَارَضَتَا: فَذَهَبَ أهْلُ الرَّأْيِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَكَثِير مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٌ فِيَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ إلَى تَرْجِيحِ الْعُمُومِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَطَائِفَة مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إلَى تَقْدِيمِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ صَرِيحًا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا.
وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِهَا؛ فَإِنَّهَا ذَاتُ شُعَب كَثِيرَةٍ، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بمَسْأَلَةِ "الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ"، وَهِيَ غَمْرَة مِن غَمَرَاتِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَد اشْتَبهَتْ أنْوَاعُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السَّابِحِينَ فِيهِ.
"فَالصَّوَابُ: أَنَّ مِثْل هَذَا الْمَفْهُومِ يُقَدَّمُ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيُّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ، وَقَد حَكَاهُ بَعْضُ النَّاسِ إجْمَاعًا مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ؛ لِأنَّ الْمَفْهُومَ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَالدَّلِيلُ الْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ.
وَلَا عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي الْمَفْهُومِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ مُقَدَّمٌّ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي الْقِيَاسِ قَرِيبُونَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْمَفْهُومِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُخَالِفِينَ
(١) أي: الْمَفهُوم والْعُمُوم.