فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَقَد يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأشْيَاءِ، لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ.
مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةٍ فِعْلًا لِمَعْصِيَةٍ أَكْبَرَ مِنْهَا فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ؛ مِثْل أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ مَا يَكُون أَعْظَمَ ضَرَرًا مِن ذَنْبِهِ.
وَمِثْل أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَن بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ تَرْكًا لِمَعْرُوفٍ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِن تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، فَيَسْكُتُ عَنِ النَّهْيِ خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أعْظَمُ مِن مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ؛ إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ -وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ- (١): فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَن امْرِهِ وَنَهْيِهِ (٢)؛ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ، كَمَا سَكَتَ الشَّارعُ فِي أَوَّلِ الْأمْرِ عَنِ الْأمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْي عَن أشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ.
فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ (٣)؛ قَد يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ، كمَا أَخَّرَ اللهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَسْلِيمًا إلَى بَيَانِهَا.
(١) هذا قيدٌ مُهم، حتى لا يُترك أمرُ الناس بالمعروف ونهيُهم عن المنكر بحجة جهل أو ظلم الظالم أو الفاجر.
(٢) هذا يُؤكد خطأ الأخذ بمبدأ الصدع بالحق مهما كان، ولو ترتب على الصدع من مفاسد وأضرار كبيرة.
(٣) والحاكم في تطبيق الشريعة كذلك، قد يُؤخر تحكيم الشريعة إذا كان لا يتَمَكَّن من ذلك في الحال، وهنا لا بد من القيد الذي ذكره الشيخ: "وَقَد يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأمْرِ وَالنهْي فِي بَعْضِ الْأشْيَاءِ، لَا التحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ".
فالحاكم والعالم لا يجوز لهما ولا لغيرهما أنْ ينووا بالسكوت التحليل أو الإسقاط، بل يعزموا على فعل الواجب متى تمكنوا من ذلك.