الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (١).
نَعَمْ! حَصَلَ لَهُ هُدًى مُجْمَلٌ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَالرَّسُولَ حَقٌّ، وَدِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ، وَذَلِكَ حَقٌّ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُجْمَلَ لَا يُغْنِيهِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هُدًى مُفَصَّلٌ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذْرُهُ مِن الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا أَكْثَرُ عُقُولِ الْخَلْقِ.
وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ ظَلُومًا جَهُولًا؛ فَالْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْعِلْمِ وَمَيْلُهُ إلَى مَا يَهْوَاهُ مِن الشَّرِّ، فَيَحْتَاجُ دَائِمًا إلَى عِلْمٍ مُفَصَّلٍ يَزُولُ بِهِ جَهْلُهُ، وَعَدْلٍ فِي مَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَإِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ (٢).
فَكُلُّ مَا يَقُولُهُ وَيعْمَلُهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عِلْمٍ يُنَافِي جَهْلَهُ، وَعَدْلٍ يُنَافِي ظُلْمَهُ، فَإِنْ لَمْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ الْمُفَصَّلِ، وَالْعَدْلِ الْمُفَصَّلِ: كَانَ فِيهِ مِن الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَن الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى سُؤَالِ هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ وَفَلَاحِهِ، بِخِلَافِ حَاجَتِهِ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ، فَإِنَّ اللهَ يَرْزُقُهُ، فَإِذَا انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ، وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ مِن أَهْلِ الْهُدَى بِهِ كَانَ سَعِيدًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا إلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ النَّصْرُ، إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ غُلِبَ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ يَمُوتُ شَهِيدًا، وَكَانَ الْقَتْلُ مِن تَمَامِ النِّعْمَةِ.
(١) فاكتساب الإيمان والتقوى والحب واللذة في العبادة كالعلم، لا يحصل جملة واحدة، بل مع كثرة القراءة والبحث، فالسبيل الوحيد للحصول على هذه الأعمال القلبية الإيمانية هو بكثرة العبادات القلبية والبدنية، وتدبر القرآن، والتفكر في خلق الله تعالى، والتدرج في العبادات من صلاة وصيام وقراءة قرآن بتدبّر وفهم.
فالذي يستمر على حاله في عبادته وعلمه دون تغيير للأفضل، وإكراه النفس في طلب المعالي: كيف سيزداد إيمانه؟ ويعظم توكله؟ ويتلذذ بعبادته؟ ويرسخ علمه؟
(٢) فالعدل مطلوب في كلّ شيء، حتى في الأكل والشرب والنوم! وانظر إلى حال بعض طلاب العلم فضلًا عن عامة الناس في أكلهم وشربهم، وكيف يشتكون من التخمة، وآلام البطن والقولون؟ وكيف هم متذبذبون في نومهم؟ فإذا لم يستطع الإنسان التغلب على هواه في أكله وشربه ونومه، فكيف سيتغلب على هواه فيما هو أعظم من ذلك؟