وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الأنعام: ١٤٥ فَإِذَا عُفِيَ عَنِ الدَّمِ غَيْرِ الْمَسْفُوحِ -مَعَ أَنَّهُ مِن جِنْسِ الدَّمِ-: عُلِمَ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- فَرَّقَ بَيْنَ الدَّمِ الَّذِي يَسِيلُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. ٢١/ ٩٦ - ١٠٠
٢٢٣٦ - لَبَنُ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتُهَا (١) فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ.
وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ انْبَنَى نِزَاعُهُم فِي جُبْنِ الْمَجُوسِ، فَإِنَّ ذَبَائِحَ الْمَجُوسِ حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَإِذَا صَنَعُوا جُبْنًا -وَالْجُبْنُ يُصْنَعُ بِالْإِنْفَحَةِ- كَانَ فِيهِ هَذَانِ الْقَوْلَانِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جُبْنَهُم حَلَالٌ، وَأَنَّ إنْفَحَةَ الْمَيْتَةِ وَلَبَنَهَا طَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ، وَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا شَائِعًا بَيْنَهُمْ.
وَأَيْضًا: فَاللَّبَنُ وَالْإِنْفَحَةُ لَمْ يَمُوتَا، وَإِنَّمَا نَجَّسَهُمَا مَن نَجَّسَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، فَيَكُونُ مَائِعًا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ؛ فَالتَّنْجِيسُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
أ - عَلَى أَنَّ الْمَائِعَ لَاقَى وِعَاءً نَجِسًا.
ب - وَعَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ نَجِسًا.
فَيُقَالُ أَوَّلًا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَائِعَ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَقَد تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ دَلَّتْ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا عَلَى نَجَاسَتِهِ.
(١) هي مادّة خاصّة تُستخرج من الجزء الباطنيّ من معِدَة الرَّضيع من العُجول أو الجِداء أو نحوهما من الحيوانات المجترّة، بها خميرة تجبِّن اللّبنَ.