فَثبتَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مَعَهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ.
بَل نَقُولُ: لَو كَانَت قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مُسْتَحَبَّةً لَاسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأمُومِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ السُّكُوتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَحُجَّتُهُم فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُن يَسْكُت ليَقْرَأَ الْمَأمُومُونَ، وَلَا نَقَلَ هَذَا أَحَدٌ عَنْهُ؛ بَل ثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" سُكُوتُهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ، وَفِي "السُّنَنِ" أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ: "سَكْتَةٌ فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَسَكْتَة بَعْدَ الْفَرَاغِ مِن الْقِرَاءَةِ"، وَهِيَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لِلْفَصْلِ لَا تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَقَد رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ كَانَت بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّه كَانَ لَهُ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ، وَلَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ، فَمَن نَقَلَ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ سَكَتَاتٍ أَو أَرْبَعَ فَقَد قَالَ قَوْلًا لَمْ يَنْقُلْهُ عَن أَحَدٍ مِن الْمُسْلِمِينَ.
وَالسَّكتَةُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ: {وَلَا الضَّالِّينَ} مِن جِنْسِ السَّكَتَاتِ الَّتِي عِنْدَ رُؤُوسِ الْآيِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى سُكوتًا؛ وَلهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِن الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَقْرأ فِي مِثْل هَذَا.
وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأُمُومِ، وَلَكِنْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَو كَانَ يَسْكُتُ سَكتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تتوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعيِ عَلَى نَقْلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
وَأَيْضًا: فَلَو كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُم يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ؛ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَكيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَد عَن أَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ أنَّهُم كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَؤُونَ الْفَاتِحَةَ، مَعَ أنَّ ذَلِكَ لَو كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ