مَحْدُودَةً؛ بَل كَانَ مُسَافِرًا لِجِنْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ، وَقَد يَكُونُ مُسَافِرًا مِن مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا مِن أبْعَدَ مِنْهَا؛ مِثْل أَنْ يَرْكَبَ فَرَسًا سَابِقًا وَيَسِيرَ مَسَافَةَ بَرِيدٍ ثُمَّ يَرْجِعَ مِن سَاعَتِهِ إلَى بَلَدِهِ: فَهَذَا لَيْسَ مُسَافِرًا.
وَإِن قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى حَمْلِ زَادٍ وَمَزَادٍ: كَانَ مُسَافِرًا، كَمَا كَانَ سَفَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ.
وَلَو رَكِبَ رَجُلٌ فَرَسًا سَابِقًا إلَى عَرَفَةَ ثُمَّ رَجَعَ مِن يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ: لَمْ يَكُن مُسَافِرًا. ٢٤/ ١١٩
٢٨١٤ - الْمُسَافِرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسْفِرَ؛ أَيْ: يَخْرُجَ إلَى الصَّحْرَاءِ؛ فَإِنَّ لَفْظَ "السَّفَرِ" يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، يُقَالُ: سَفَرَت الْمَرْأَةُ عَن وَجْهِهَا إذَا كَشَفَتْهُ.
فَإذَا لَمْ يَبْرُزْ إلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي يَنْكَشِفُ فِيهَا مِن بَيْن الْمَسَاكِن لَا يَكُونُ مُسَافِرًا (١)، قَالَ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} التوبة: ١٠١ فَجَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ: أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابَ.
وَالْأَعْرَابُ هُم أَهْلُ الْعَمُودِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ هُم أَهْلُ الْمَدَرِ.
فَجَمِيعُ مَن كَانَ سَاكِنًا فِي مَدَرٍ كَانَ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُن لِلْمَدِينَةِ سُورٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ دَاخِلُهَا مِن خَارِجِهَا؛ بَل كَانَت مَحَالَّ مَحَالَّ، وَتُسَمَّى الْمَحَلَّةُ دَارًا، وَالْمَحَلَّةُ الْقَرْيَةُ الصَّغِيرَةُ فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَحَوْلَهَا النَّخْلُ وَالْمَقَابِرُ، لَيْسَتْ أَبْنِيَةَ مُتَّصِلَةً.
(١) صريح كلام شيخ الإسلام رَحِمهُ اللهُ أنّ من أراد السفر فإنه لا يقصر حتى يخرج من المدينة كلّها، وما تشمله من عمران ومزارع، ومن وصل حدود مدينته ودخل المزارع أو الاستراحات التابعة لها فإنه ينقطع في حقّه السفر، حيث قال: الْمُسَافِرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسْفِرَ؛ أيْ: يَخْرُجَ إلَى الصَّحْرَاءِ، ومن خرج من العمران ولم يخرج من المزارع لم يخرج بعدُ إلَى الصَّحْرَاءِ.
وَقال كذلك: اسْمُ "الْمَدِينَةِ" يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَكُن هُنَاكَ إلا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأعْرَابُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَحَن لَمْ يَكن مِنَ الْأعْرَابِ كَانَ مِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَسِيرُهُ إلَى قُبَاء كَأنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَو سُوِّغَ ذَلِكَ: سُوِّغَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمِصْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. اهـ.