وَمَن قَالَ: إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَد خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللهُ مِن الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ. ٣/ ١١١ - ١١٢
* * *
(هَل الْأَفْعَالُ يُعْرَفُ حَسَنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ؟)
٢٧٧ - الْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِن حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ، وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ، وَهُوَ عَدْلُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيتْرُكُونَهُ.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأفْعَالَ هَل يُعْرَفُ حَسَنهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ، أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ؟
فَإِنَّهُم اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَو يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ، وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وُيؤْذِيه، وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً، وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى، وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى.
لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ مِن السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ: لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِن تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَرَتْ بِهِ مِن تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِن تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، وإِن كَانُوا قَد يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ.
وَلَكِنْ تَوَهَّمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا وَأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ.
وَقَابَلَتْهُم طَائِفَةٌ أُخْرَى ظَنَّتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِن الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ: يَخْرُجُ عَن هَذَا.
فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَثْبَتَتَا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ أَو الشَّرْعِيَّيْنِ وَأَخْرَجَتَاهُ عَن هَذَا الْقِسْمِ غَلِطَتْ.