- وَإِن كَانَ الْمَقْبُوضُ بِرِضَا الدَّافِعِ وَقَدِ اسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ؛ كَمَن عَاوَضَ عَلَى خَمْرٍ أَو خِنْزِيرٍ، أَو عَلَى زِنًى أَو فَاحِشَةٍ: فَهَذَا لَا يَجِبُ رَدُّ الْعِوَضِ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَة بِاخْتِيَارِهِ، وَاسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمحَرَّمَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لَهُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَيْسِيرَ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي عَلَيْهِ.
وَمَاذَا يُرِيدُ الزَّانِي وَفَاعِلُ الْفَاحِشَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَنَالُ غَرَضَهُ وَيسْتَرِدُّ مَالَهُ؟ فَهَذَا مِمَّا تُصَانُ الشَّرِيعَةُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَلَا يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ وَالْغَدْرِ.
وَمِن أَقْبَحِ الْقَبِيحِ أنْ يَسْتَوْفِيَ عِوَضَهُ مِنَ الْمَزْنِيِّ بِهَا، ثُمَّ يَرْجِع فِيمَا أَعْطَاهَا قَهْرًا، وَقُبْحُ هَذَا مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ.
وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْقَابِضِ أَكْلُهُ؛ بَل هُوَ خَبِيث كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَكِنَّ خُبْثَهُ لِخُبْثِ مَكْسَبِهِ، لَا لِظُلْمِ مَن أُخِذَ مِنْهُ، فَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَتَمَامُ التَّوْبَةِ: بِالصَّدَقَةِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَيتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، فَهَذَا حُكْمُ كُلِّ كَسْبٍ خَبِيثٍ لِخُبْثِ عِوَضِهِ عَيْنًا كَانَ أَو مَنْفَعَةً.
وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِخُبْثِهِ: وُجُوبُ رَدِّهِ عَلَى الدَّافِعِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَمَ بِخُبْثِ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى دَافِعِهِ (١).
وَقَد تَوَقَّفَ شَيْخُنَا فِي وُجُوبِ رَدِّ عِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى بَاذِلِهِ، أوِ الصَّدَقَةِ بِهِ فِي كِتَابِ "اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ"، وَقَالَ: الزَّانِي وَمُسْتَمِعُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ قَد بَذَلُوا هَذَا الْمَالَ عَن طِيبِ نَفُوسِهِمْ، فَاسْتَوْفَوُا الْعِوَضَ الْمُحَرَّمَ، وَالتَّحْرِيمُ الَّذِي فِيهِ لَيْسَ لِحَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَقَد فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَبْضِ، وَالْأُصُولُ تَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ رَدَّ الْآخَرَ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمُستَأْجِرِ رَدُّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَالَ،
(١) ما بين المعقوفتين من زاد المعاد؛ تتميمًا للفائدة.