اسْتَعْجَلَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ، فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَالْحُكْمَانِ لَهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا بِلَا عِوَضٍ إذَا رَأَيَا الزَّوْجَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ مِن الظُّلْمِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَن الزَّوْجَةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالآثَارُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعيِّ وَأَحْمَد ..
وعامةُ الآثار (١) الْمَنْقُولَة عَن الصَّحَابَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا بِالثَّلَاثِ لِمَنْ عَصَى اللّهَ بِإِيقَاعِهَا جُمْلَةً، فَأَمَّا مَنْ كَانَ يَتَّقِي اللّهَ فَإِنُّ اللّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق: ٢، ٣، فَمَنْ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ حَتَّى أَوْقَعَهَا ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ التَّحْرِيمَ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْمُحَرَّمِ: فَهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ.
وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ: الْكِتَابِ وَالِسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَهُ، وَنِكَاحُهُ ثَابِتٌ بِيَقِين، وَامْرَأتُهُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ بِيَقِين، وَفِي إلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ إبَاحَتُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى نِكَاحِ التَّحْلِيلِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
ونِكَاحُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَكُن ظَاهِرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ قَطُّ أَنَّ امْرَأَةً أُعِيدَتْ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى عَهْدِهِمْ إلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحِ تَحْلِيلٍ؛ بَل لَعَنَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، ولَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّحْلِيلِ الشُّهُودَ وَلَا الزَّوْجَةَ وَلَا الْوَلِيَّ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ كَانَ مَكْتُومًا بِقَصْدِ الْمُحَلِّلِ، أَو يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُطَلِّقُ الْمُحَلَّلُ لَهُ، وَالْمَرْأَةُ وَوَليُّهَا لَا يَعْلَمُونَ قَصْدَهُ، وَلَو عَلِمُوا لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ؛ فَإِنَّهُ مِن أَعْظَمِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلِأَنَّ عَادَاتِهِمْ لَمْ تَكنْ بِكِتَابَةِ الصَّدَاقِ فِي كِتَاب وَلَا إشْهَادٍ عَلَيْهِ؛ بَل كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ وَيُعْلِنُونَ النِّكَاحَ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ أَنْ يُشْهِدُوا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
(١) في الأصل: (وَقدْ ذُكِرَتُ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَة) .. والتصويب من جامع المسائل (١/ ٣٦٠).