فَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الَّذِي هُوَ "نَذْرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ"؛ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَو فَمَالِي صَدَقَةٌ، أَو فَعَلَيَّ صِيَامٌ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَن الْفِعْلِ، أَو أَنْ يَقُولَ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ وَنَحْوَهُ: فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ مِن أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَأَكْثَرُهُم قَالُوا: هُوَ مُخَيَّر بَيْنَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَن أَحْمَد. وَمِنْهُم مَن قَالَ: بَل عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَيْنًا كَمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاللهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْأخْرَى وَطَائِفَةٌ: بَل يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَالدَّليلُ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّ مُوجَبَ صِيغَةِ الْقَسَمِ مِثْلُ مُوجَبِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ.
وَالنَّذْرُ نَوْعٌ مِن الْيَمِينِ، وَكُلُّ نَذْرٍ فَهُوَ يَمِينٌ، فَقَوْلُ النَّاذِرِ: للهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَحْلِفُ بِاللهِ لَأَفْعَلَنَّ، مُوجَبُ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْتِزَامُ الْفِعْلِ مُعَلَّقًا بِاللهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "النَّذْرُ حَلِفٌ" (١). فَقَوْلُهُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجّ للهِ: بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَوَاللهِ لَأَحُجَّنَّ.
(١) لم أجده بهذا اللفظ، وأقرب لفظ له: ما رواه الإمام أحمد (١٧٣٤٠)، عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِر
قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اِنمَا النَّذْرُ يَمِينٌ، كَفَّارَتُهَا كفَّارَةُ الْيَمِينِ".
قال العلَّامة الألباني: رجاله ثقات غير ابن لهيعة، وهو سيء الحفظ، ولكني وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جزم بنسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مستدلًا به على أن كل نذر يمين، فقال في الفتاوى (٣/ ٣٥٨): والدليل على هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: النذر حلف".
فإن كان شيخ الإسلام وقف للحديث على طريق أخرى غير هذه فهو قوي، وإلا فلا، والاحتمال الأول أقرب، لأن اللفظ الذي رواه هو غير هذا، والله أعلم.
نعم جاء الحديث في صحيح مسلم وغيره عن عقبة مختصرًا بلفظ: "كفارة النذر كفارة يمين"، فهو شاهد قوي للحديث. اهـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢٨٦٠).