فَأَجَابَ: مَا يُجْرَحُ بِهِ الشَّاهِدُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَدِينِهِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهِ إذَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ بِهِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، ويكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا شَرْعِيًّا، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَائِفُ الْفُقَهَاءِ مِن الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِهِم الْكِبَارِ وَالصّغَارِ، صَرَّحُوا فِيمَا إذَا جُرِحَ الرَّجُلُ جَرْحًا مُفْسِدًا أَنَّهُ يَجْرَحُهُ الْجَارحُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، أَو رَآهُ وَاسْتَفَاضَ.
وَمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُم يَشْهَدُونَ فِي وَقْتِنَا فِي مِثْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا مِن أَهْلِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ.
ويشْهَدُونَ فِي مِثْل الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَعَمْرُو بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيِّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَإِ الرافضي وَنَحْوِهِمْ مِن الظُّلْمِ وَالْبِدْعَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ إلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ.
وَقَد ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" (١) عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: "وَجَبَتْ"، وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَة فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: "وَجَبَتْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا قَوْلُك: وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟
قَالَ: "هَذِهِ الْجِنَازَةُ أثنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًّا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أثنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ".
هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ تَفْسِيقَهُ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ وَوِلَايَتِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّحْذِيرَ مِنْهُ وَاتّقَاءَ شَرِّهِ فَيُكْتَفَى بِمَا دُونَ ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ.
فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخَالِطًا فِي السَّيْرِ لِأَهْلِ الشَّرِّ يُحَذَّرُ عَنْهُ (٢).
(١) البخاري (١٣٦٧)، ومسلم (٩٤٩).
(٢) فكيف إذا خالطهم في اجتماعاتهم واستراحاتهم، وجَعَلهم أصدقاءه؟ فالتحذير منه من باب أولى.