إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوق؛ بَل مَا اتَّصَفَ بِهِ الرَّبُّ مِن ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا اتَّصَفَ بِهِ الْعَبْدُ مِن ذَلِكَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ.
فَالصِّفَةُ تَتْبَعُ الْمَوْصُوفَ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْخَالِقَ فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَإِن كَانَ الْمَوْصُوفُ هُوَ الْعَبْدَ الْمَخْلُوقَ فَصِفَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ.
وَلَو قَالَ الْقَائِلُ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} مريم: ١٢ وَمَقْصُودُة الْقُرْآنُ كَانَ قَد تَكَلَّمَ بِكَلَامِ اللهِ وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِاتَّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِن قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ تَنْبِيهَ غَيْرِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَلَو قَالَ لِرَجُل اسْمُهُ يَحْيَى وَبِحَضْرَتِهِ كِتَابٌ: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ لَكانَ هَذَا مَخْلُوقًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ يَحْيَى هنا مُرَادٌ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَبِالْكِتَابِ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ مَا أَرَادَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ.
١٢/ ٦٦ - ٦٧
٨٢ - قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الشورى: ٥١ (١)، فَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ -كَمَا كَلَّمَ مُوسَى-، وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ -كَمَا كَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِم-. ١٢/ ١٣٧
(١) قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عزَّوجلَّ، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا لا يتمارى فيه أنه من الله عزَّوجلَّ، كما جاء في صحيح ابن حبان، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن رُوح القُدُس نفث في رُوعي: أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".
وقوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الشورى: ٥١ كما كلم موسى عليه السلام، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها. وفي الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجابر بن عبد الله: "ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحًا" الحديث، وكان أبوه قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا.
وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الشورى: ٥١ كما ينزل جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. اهـ.