الثَّانِي: أَنَّهُ قَد جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرِ مِن الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَد تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "غُفِرَ لَهُ وَإِن كَانَ فَرَّ مِن الزَّحْفِ" (١).
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَد غَفَرْت لَكُمْ" (٢): إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوً عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُن فَرْقٌ بَيْنَهُم وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ.
فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِمَا قَد عُلِمَ أنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ: لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكبَائِرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ: "أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِن عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَل لَهُ مِن تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ" (٣).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمَّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٌّ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران، وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِن التَّطَوُّعَاتِ (٤).
(١) رواه أبو داود (١٥١٧)، والترمذي (٣٥٧٧)، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(٢) رواه البخاري (٣٠٠٧)، ومسلم (٢٤٢٩).
(٣) رواه ابن ماجه (١٤٢٥)، والترمذي (٤١٣)، وأبو داود (٨٦٤)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٢٠٢٠ - ٨٩٢).
(٤) وجاء في الآداب الشرعية (١/ ١٤٧، ١٤٨)، والمستدرك (١/ ١٢٨): ذكر الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه-: أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بريادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب، وذكر حديث: "فثقلت البطاقة وطاشت السجلات"، وحديث: "البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر لها"، وحديث: "الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك فغفر له". اهـ.
وهذا ظاهرٌ أن شيخ الإسلام رحمهُ اللهُ يرى أنّ الْحَسَنَات قد تُكَفِّرُ الْكَبَائِر.
ولكن جاء خلاف ذلك، ففي المستدرك (٣/ ١٢٦)، والفتاوى المصرية (١٠٥): صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة" لكن إطلاق القول بأنه يكفر لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال في: "الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"، ومعلوم أنَّ الصلاةَ هي أفضل من الصيام، =