وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مِثْلُ أَعْمَالِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِن الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، بِخِلَافِ مَن أَعَانَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَوُجِدَتْ مِنْهُ إرَادَةٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ.
وَأَيْضًا فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِن لَمْ يَكُن إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} النساء: ٩٥، ٩٦.
فَاللهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ، وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ.
بَل يُقَالُ: دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ إيَّاهُ، وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ. اسْتَثْنَى أُولُو الضَّرَرِ مِن نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ؛ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا هُوَ مِن النَّفْيِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أُولِي الضَّرَرِ قَد يُسَاوُونَ الْقَاعِدِينَ، وَإِن لَمْ يُسَاوُوهُم فِي الْجَمِيعِ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي بِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْهَامِّ وَالْعَامِلِ وَأَمْثَالِهَا إنَّمَا هِيَ فِيمَا دُونَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن أَبِي رَجَاءٍ العطاردي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِي عَن رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً.
فَإنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كتبهَا اللهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ.
وَمَن هَمَّ بِسَيَئةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتبَهَا لَهُ اللهُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً.
فَإنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".
فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ فِي رَجُلٍ يُمْكِنُهُ الْفِعْل؛ وَلهَذَا قَالَ: "فَعَمِلَهَا" "فَلَمْ