فَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ مَعَ الْقُدْرَةِ إلَّا لِعَجْزٍ يَجْرِي صَاحِبُهَا مَجْرَى الْفَاعِلِ التَّامِّ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَذَلِكَ الْمُتَخَلِّفُ لَا يَكُونُ مُرَادًا إرَادَةً جَازِمَةً؛ بَل هُوَ الْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ الْعَفْوُ عَنْهُ.
وَبِهِ ائْتَلَفَتْ النُّصُوصُ وَالْأُصُولُ (١). ١٠/ ٧٢٢ - ٧٦٥
٥٧٠ - مِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ تَقْتَضِي حُبَّهُ (٢)، وَمَعْرِفَةَ الْمُعَظَّمِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ، وَمَعْرِفَةَ الْمُخَوَّفِ تَقْتَضِي خَوْفَهُ، فَنَفْسُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ بِاللهِ وَمَا لَهُ مِن الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى يُوجِبُ مَحَبَّةَ الْقَلْبِ لَهُ وَتَعْظِيمَهُ وَخَشْيَتَهُ؛ وَذَلِكَ يُوجِبُ إرَادَةَ طَاعَتِهِ وَكَرَاهِيَةَ مَعْصِيَتِهِ.
وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ: تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ وَوُجُودَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ منه.
فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مُرِيدًا لِلصَّلَاةِ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ قُدْرَيهِ عَلَيْهَا: صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقُدْرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ الْإِرَادَةِ.
وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
فَإِنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ: هَل يَحْصُلُ بِهَا عِقَابٌ؟.
وَالْفَصْلُ فِي ذَلِكَ أنْ يُقَالَ: فَرْقٌ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْإِرَادَةِ:
فَالْهَمُّ: قَد لَا يَقْتَرِن بِهِ شَيْءٌ مِن الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: فَهَذَا لَا عُقُوبَةَ فِيهِ بِحَال؛ بَل إنْ تَرَكَهُ للهِ كَمَا تَرَكَ يُوسُفُ هَمَّهُ أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أُثِيبَ
(١) تحقيق بديعٌ لا يكاد يُوجد له نظير، والعجيب أنه حقَّقَ هذه المسألة المهمة، وحشا فيها النصوص الكثيرة، ووفق بين النصوص التي ظاهرها التعارض، وناقش أقوال العلماء واسْتدرك على بعضهم، ومع ذلك فليس عنده كتبٌ يستعين بها! فقد صرح بذلك بعد الانتهاء من بحثها في أكثر من أربعين صفحة: وَحِينَ كَتَبْتُ هَذَا الْجَوَابَ لَمْ يَكُن عِنْدِي مِن الْكُتُبِ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْجَوَابِ! (١٠/ ٧٦٥).
(٢) فإذا ضعف حبُّ العبدَ لله، ولم يُقَدِّم حبه على محبة نفسه وهواه: دل على ضعف علمه بالله.