وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا ينْبتُ لَهُ الزَّرْع بِمَا يَسْقِيهِ مِن الْمَاءِ وَيَبْذُرُهُ مِن الْحَبِّ، فَلَو قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَذْرِ: كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا؛ لِأَنَّ اللهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِذَلِكَ (١).
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذَا يَشْبَعُ بِالْأَكْلِ، وَهَذَا يُرْوَى بِالشُّرْبِ، وَهَذَا يَمُوتُ بِالْقَتْلِ، فَلَا بُدَّ مِن الْأَسْبَابِ الَّتِي عَلِمَ اللهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَكُونُ بِهَا.
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ، قُلْنَا: ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَشْقِيَاءِ؛ فَاللهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْقَى بِهَذَا الْعَمَلِ.
فَلَو قِيلَ: هُوَ شَقِيٌّ وَإِن لَمْ يَعْمَلْ: كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ أَحَدًا إلَّا بذَنْبهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)} ص: ٨٥، فَأَقْسَمَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِن إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ، وَمَن اتَّبَعَ إبْلِيسَ فَقَد عَصَى اللهَ تَعَالَى، وَلَا يُعَاقِبُ اللهُ الْعَبْدَ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ حَتَّى يَعْمَلَهُ.
وَلهَذَا لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَن أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" (٢).
يَعْنِي: أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُونَ لَو بَلَغُوا، وَقَد رُوِيَ أَنَّهُم فِي الْقِيَامَةِ يُبْعَثُ إلَيْهِم رَسُولٌ، فَمَن أَطَاعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَن عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، فَيَظْهَرُ مَا عَلِمَهُ فِيهِمْ مِن الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَكَذَلِكَ الْجَنَةُ خَلَقَهَا اللهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، فَمَن قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُم يَسَّرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
فَمَن قَالَ: أَنَا ادْخُلُ الْجَنَّةَ سَوَاءٌ كُنْت مُؤْمِنًا أَو كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنِّي مِن أَهْلِهَا: كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللهَ إنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا بِالْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُن مَعَهُ إيمَان لَمْ يَكُن هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ بَل مَن
(١) أي: بذلك البذر والزرع.
(٢) رواه البخاري (١٣٨٣)، ومسلم (٢٦٥٨).