مُشَتَّتَهُ، وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَاشْتَغَلَ بِتَصْنِيفِ أَبْوَابِهِ وَتَرْتِيبِ أَصْنَافِهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِمَّا يُقَوِّي النَّفْسَ، وَيُثَبِّتُ الْحِفْظَ، وَيُذَكِّي الْقَلْبَ، وَيُشْحِذُ الطَّبْعَ، وَيَبْسُطُ اللِّسَانَ، وَيُجِيدُ الْبَنَانَ، وَيَكْشِفُ الْمُشْتَبِهَ، وَيُوَضِّحُ الْمُلْتَبِسَ، وَيُكْسِبُ أَيْضًا جَمِيلَ الذِّكْرِ، وَتَخْلِيدَهُ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيِي الْعِلْمُ ذِكْرَهُمُ ... وَالْجَهْلُ يُلْحِقُ أَحْيَاءً بِأَمْوَاتِ
انْتَهَى.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَصْرِيِّ:
الْعِلْمُ أَفْضَلُ شَيْءٍ أَنْتَ كَاسِبُهُ ... فَكُنْ لَهُ طَالِبًا مَا عِشْتَ مُكْتَسِبَا
وَالْجَاهِلُ الْحَيُّ مَيْتٌ حِينَ تَنْسُبُهُ
وَالْعَالِمُ
الْمَيِّتُ حَيٌّ كُلَّمَا نُسِبَا
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ التَّاجِ السُّبْكِيِّ: الْعَالِمُ وَإِنِ امْتَدَّ بَاعُهُ، وَاشْتَدَّ فِي مَيَادِينِ الْجِدَالِ دِفَاعُهُ، وَاسْتَدَّ سَاعِدُهُ حَتَّى خَرَقَ بِهِ كُلَّ سَدٍّ سَدَّ بَابَهُ، وَأَحْكَمَ امْتِنَاعَهُ، فَنَفْعُهُ قَاصِرٌ عَلَى مُدَّةِ حَيَاتِهِ، مَا لَمْ يُصَنِّفْ كِتَابًا يَخْلُدُ بَعْدَهُ، أَوْ يُورِقْ عِلْمًا يَنْقُلُهُ عَنْهُ تِلْمِيذٌ إِذَا وَجَدَ النَّاسُ فَقْدَهُ، أَوْ تَهْتَدِي بِهِ فِئَةٌ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ أَلْبَسَهَا بِهِ الرَّشَادَ بُرْدُهُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ التَّصْنِيفَ لَأَرْفَعُهَا مَكَانًا ; لِأَنَّهُ أَطْوَلُهَا زَمَانًا، وَأَدْوَمُهَا إِذَا مَاتَ أَحْيَانًا.
وَلِذَلِكَ لَا يَخْلُو لَنَا وَقْتٌ يَمُرُّ بِنَا خَالِيًا عَنِ التَّصْنِيفِ، وَلَا يَخْلُو لَنَا زَمَنٌ إِلَّا وَقَدْ تَقَلَّدَ عُقَدُهُ جَوَاهِرَ التَّأْلِيفِ، وَلَا يَجْلُو عَلَيْنَا الدَّهْرُ سَاعَةَ فَرَاغٍ إِلَّا وَنُعْمِلُ فِيهَا الْقَلَمَ بِالتَّرْتِيبِ وَالتَّرْصِيفِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّغَ الْمُصَنِّفُ لِلتَّصْنِيفِ قَلْبَهُ، وَيَجْمَعَ لَهُ هَمَّهُ، وَيَصْرِفَ إِلَيْهِ شُغْلَهُ، وَيَقْطَعَ بِهِ وَقْتَهُ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ الْفَائِدَةَ فَلْيَكْسِرْ قَلَمَ النَّسْخِ، وَلْيَأْخُذْ قَلَمَ التَّخْرِيجِ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ