لأنَّ اللهَ أمَرَ بالحُكْمِ بما يَراهُ الإنسانُ مِن أدواتِ الحقِّ التي أمَرَ اللهُ بها، وأن يَستفرِغَ وُسعَهُ في تحقيقِها، فيحكُمَ بها، وبهذا كان قصاءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما في "الصحيحَينِ"، مِن حديثِ أمِّ سَلمةَ؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِه، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ مَسْلِمٍ، فَإنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّار، فَلْيَحْمِلْهَا أَوْ يَذَرْهَا) (١).
سبَبُ عدمِ تساوي أجرِ المجتهدين:
ويؤجَرُ الحاكمُ المحتهِدُ بأدواتِ الحقِّ ولو لم يُصِبْ، وأَجْرُ المُصِيبِ أجرانِ، وأجرُ المُخطِئِ المُجتهِدِ أجرٌ واحدٌ لاجتهادِه، وإنَّما لم يتَساوَيَا في الأجرِ مع أنَّ كلَّ واحدٍ منهما أخَذَ ما ظهَرَ له؛ حتَّى لا يُقصِّرَ الحاكمُ في استفراغِ وُسْعِهِ في طلَبِ البيِّناتِ أو الغَفْلةِ عن سماعِ الحُجَج، فتُعْجِلُهُ نفسُهُ في الحُكْمِ؛ لاستواءِ الأجرَينِ للمُصيبِ والمخطِئِ؛ فإنَّ النفوسَ تتساهلُ في سلوكِ أيِّ الطريقَيْنِ إذا كانَتْ غايتُهما واحدةً.
وإذا ظهَرَ حُكمُ اللهِ القطعيُّ في كتابِهِ في شيءٍ، يجورُ النظرُ في أدواتِه؛ لأنَّ اللهَ اختصَرَ الطريقَ للحُكمِ بإلغاءِ أدواتِه؛ فلا يُحِلُّ أحدٌ الزِّنى والحريرَ ولُبْسَ الذَّهَبِ للرِّجالِ والسُّفُورَ للمرأةِ والاختلاطَ والخَلْوةَ بها، ونحوَ ذلك.
خطأُ القاضِي لا يغيِّرُ الحقوقَ:
ولو حكَمَ الحاكمُ بما ظهَرَ له، وخالَفَ حُكمَ اللهِ باطنًا، لم يَجُزْ للمحكومِ له - إنْ كان عالِمًا بأنَّ الحقَّ ليس له - أن يَأكُلَهُ بحُجَّةِ حُكْمِ القاضي؛ فإنَّ حُكمَ القاضي يُبرِّئُ ذمَّتَهُ لا ذمَّةَ المتخاصِمَيْن، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لرجُلَيْنِ اختصَمَا في مواريثَ بينَهما قد دَرَسَتْ ليس بينَهما بيِّنةٌ،
(١) أخرجه البخاري (٢٤٥٨) (٣/ ١٣١)، ومسلم (١٧١٣) (٣/ ١٣٣٧).