والبخاريُّ حمَلَ ذلك على انتِفاءِ التُّهَمةِ؛ لكَوْنِهِ حُكْمًا خاصًّا، لا يَتْبَعُهُ خِلَافٌ ولا جحودٌ ولا نزاعٌ.
ومِنَ العلماءِ: مَن يَحمِلُ قولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لهِندٍ على أنَّه فَتيا لا حُكْمٌ بينَ مُتخاصِمَيْنِ.
وعند أدنى التُّهَمِ لم يكُنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقضي بعِلْمِهِ وهو الصادقُ المصدوقُ؛ فقد ثبَتَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه اشتَرَى فرَسًا، فجحَدَهُ البائعُ، فلم يحكُمْ عليه بعِلْمِه، وقال: (مَن يَشهَدُ لي؟ )، فقامَ خُزَيْمةُ فشَهِدَ، فحَكَم (١).
وبنحوِ هذا يَعمَلُ أبو بكرٍ وعمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنهما -، فقد روى ابنُ أبي شَيْبةَ وغيرُهُ؛ مِن حديثِ عَمْرِو بنِ إبراهيمَ الأنصاريِّ، عَن عمِّه الضَّحاكِ؛ قال: اخْتَصمَ رَجُلَانِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ادَّعَيَا شَهَادَتَهُ، فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: "إِنْ شِئْتُمَا شَهِدتُّ وَلَمْ أَقْضِ بيْنَكمَا، وَإِنْ شِئْتُمَا قَضَيْتُ وَلَمْ أَشْهَدْ" (٢).
وبمعنى هذا قال شُرَيحٌ (٣) والشَّعْبيُّ (٤).
وما كان مِن حقِّ اللهِ وحدودِه وأحكامِه؛ كأحكامِ الطَّلَاقِ والعِدَّةِ وحدودِ الخَمْرِ والقَذْفِ والزِّنى والسَّرِقة، فإنَّها أَوْلى بِمَنعِ الحاكمِ أن يحكُمَ بعِلْمِهِ فيها؛ لأنَّ حقَّ اللهِ مبنيٌّ على المُسامَحةِ لعبادِهِ والسَّتْرِ عليهم، والشِّرِيعةُ تتشوَّفُ إلى دَفْعِها بالشبهاتِ؛ بخلافِ حقوقِ الآدَميِّينَ، فهي مبنِيَّةٌ على المشاحَّةِ، وقد روى البيهقيُّ وغيرُهُ، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ؛ أنَّه قال: "لو وجَدتُ رجلًا على حدٍّ مِن حدودِ الله، لم أَحُدَّهُ حتى يكونَ معي غيري" (٥).
(١) أخرجه أحمد (٢١٨٨٣) (٥/ ٢١٥)، وأبو داود (٣٦٠٧) (٣/ ٣٠٨)، والنسائي (٤٦٤٧) (٧/ ٣٠١).
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٢١٩٣٠) (٤/ ٤٤١).
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٢١٩٣٢) (٤/ ٤٤١).
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (ط. عوامة) (٢٢٣٦٣) (١١/ ٢٩٤).
(٥) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (١٠/ ١٤٤)، وابن المنذر في "الأوسط" (١٢/ ٤٥٩).