لمداواةِ خواطرِ النفوسِ ووساوسِ الشيطانِ عليها؛ لأنَّ النفسَ تتشوَّفُ إلى الممنوعِ أكثرَ مِن تشوُّفِها إلى المسموحِ.
وهذا ما أوقَعَ آدمَ عليه السلام في أكلِ الشَّجَرةِ وهي واحدةٌ، مع كثرةِ الحلالِ في الجَنَّةِ ووَفرَتِهِ ممَّا يَذهب الزَّمَنُ الطويل عن تذوُّقهِ كلِّه.
ولمَّا كانتِ النفوسُ كذلك، ذكرَ الله الحلال مع أنه لا يُعَدُّ، أكثَرَ مِن ذكرهِ للحرامِ مع كونه معدودًا، ويَنهى الله في القرآنِ عن تحريمِ الحلالِ أكثَرَ مِن نهيِه عن تحليلِ الحرام؛ لأن التحريمَ يُشعِرُ النفوسَ بالتشديدِ ولو كان قليلًا، أكثَرَ مِن شعورِها بالتيسيرِ عندَ التحليلِ ولو كان كثيرًا.
وهذا مِن أنواعِ البلاءِ الذي تحتاجُ النفوسُ معه إلى مجاهدةٍ، ويحتاجُ معه العلماءُ إلى موازَنةِ؛ وذلك بكثرةِ عَرْضِ الحلالِ والتذكيرِ به، وبيانِ المحرَّمِ وتعدادِهِ وحَصْرِه، مع عِظَمِ التعدِّي في الأمرَينِ في الدِّينِ: تحليلِ الحرامِ وتحريمِ الحلالِ.
فينبغي للعالِمِ إن سُئِلَ عن محرَّم، وكان خطابُهُ عامًّا أن يَقتديَ بهَدْيِ القرآن، فيَقرِنَ معه الحلال وينصَّ عليه؛ حتى لا يَشعُرَ السامعُ لتعدادِ المحرَّمِ بالضيقِ والتشديدِ والحرَج، ويضعُفَ تسليمُهُ لأمرِ ربِّه، وهذا عندَ ذِكْرِ كل محرَّمٍ مِن مأكولٍ أو ملبوسٍ أو غيرِه، وخاصَّةً في الخِطَابِ العامّ، وأمَّا خطابُ الأفرادِ وسؤالُهُم، فالأمرُ فيه أيسَرُ؛ لأنَّ التَّبِعَةَ فيه أقلُّ؛ ولذا كثُرَ في السُّنَّةِ جوابُ أفرادٍ عن محرَّماتٍ مِن غيرِ أن يقترنَ بها مباحٌ.
تحريم الحلالِ أشدُّ مِن تحليلِ الحرامِ؛ وبيانُ الغايةِ من ذلك:
والنهيُ عن تحريمِ الحلالِ أكثَرُ في القرآنِ وأشَدُّ مِن النهي عن تحليلِ الحرام، مع كونِ الحلالِ لا يُعَدُّ والحرام معدودًا؛ ومن ذلك قولُهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} المائدة: ٨٧،