وإنما خَصَّ أحمد الاستنشاقَ بالوجوب في قول؛ لثبوتِ الأمرِ في "الصحيحَيْنِ"؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذَا تَوَضأ أَحَدُكم، فَليسْتَنْشق) (١).
والأظهَرُ: حمل الأمرِ فيه كما في الأمرِ بالمضمضة، في "السنَنِ" في حديثِ لَقِيطٍ: "إِذَا تَوَضَأتَ، فَمَضمِض" (٢)، وقد حكى الشافعي وابن المُنذِرِ: أنه لم يقل بوجوبه أحد مِن السلف، وأن مَن ترَكَه لا يُعيدُ، إلا شيئًا رُوِيَ عن عطاء، فقد صحَّ أنه سُئِلَ: أحَق عليّ أنْ أَستنشِقَ؟ قال: نعم، قيل: عمن؟ قال: عن عثمانَ (٣).
ومرة أمَرَ بإعادةِ الصلاةِ لمن لم يُمضمِض وَيستنشق (٤).
والأظهرُ: تركُهُ لهذا القولِ؛ ويدل على ذلك: ما جاء عنه مِن حديثِ المثنى، عنه؛ أنه قال فيمَن نَسِيَ المضمضةَ والاستنشاقَ حتى صلى: إنه لا يُعِيدُ؛ كما رواه ابن أبي شَيْبةَ (٥).
وأما ما جاء عن ابنِ عبَّاسٍ في الأمرِ بإعادةِ الوضوءِ لِمَن ترَكَ المضمضةَ والاستنشاقَ، فلا يصحُّ.
وقد كان أحمد قد سُئِلَ عن المضمضةِ والاستنشاقِ: أفريضة هو؟ فقال: لا أقولُ فريضة إلا ما في الكتاب، وقد تقدم هذا عنه أول الآية، وكان بعضُ الأصحابِ ينقُل عن أحمَدَ: أنه يفرق بين الفرض والواجب، فيجعلُ الفرضَ ما ثبتَ في الكتاب والواجب ما ثَبَتَ في السُّنَّة؛ كما استظهَرَهُ مِن قولِهِ أبو يعلى وابن عَقيل (٦).
(١) أخرجه البخاري (١٦١) (١/ ٤٣)، ومسلم (٢٣٧) (١/ ٢١٢).
(٢) أخرجه أبو داود (١٤٤) (١/ ٣٦).
(٣) أخرجه ابن حزم في "المحلى" (١/ ٢١٠).
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٢٠٥٧) (١/ ١٧٩).
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٢٠٥٩) (١/ ١٧٩).
(٦) "العدة" لأبي يعلى (٢/ ٣٧٦)، و"المسودة" (١/ ١٦٤).