وأما ما يُحتَجُّ له أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَهُ ترَكُوا مالَ فتحِ مَكَّةَ، وأنَّهم لم يأخُذُوهُ، وقد أَوْجَفوا عليها بخَيْلِهم ورِكَابِهم، فلِوَحْيِ خاصٍّ، فكما قسَّمَ اللهُ الغنيمةَ بوَحْي، خَصَّ مكَّةَ بوَحْيِ.
وأمَّا إعطاءُ النبيِّ الأقرعَ بنَ حابسٍ وأصحابَهُ يومَ حُنَين مئةً مئةً، فلا يَلزَمُ مِن ذلك عدمُ تخميسِ الغنيمة، فقد يكون مالُ حُنَيْنِ كثيرًا، وكان خمسُ النبيِّ كثيرًا فأعطاهُمْ منه، وقد يكونونَ عُوِّضُوا بشيءٍ لا يُعَوَّضُهُ أحدٌ بعدَهُ، وهو أعظَمُ مَغنمٍ، وهو قُرْبُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - منهم؛ كما قال: (أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بالدُّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ )؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ (١).
وليس لأميرِ أن يقولَ لجُنْدِهِ مِثْلَ ما قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لجُنْدِه؛ وهذا دليلٌ على خَصُوصِيَّتِهِ في مِثلِ هذه الحالِ.
* * *
قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} الأنفال: ٥، ٦.
كان في نفوسِ بعضِ المؤمنينَ كُرْةٌ للِقَاءِ قريشٍ، فأَمْضاهُ اللهُ وحقَّقَ لقاءَ المؤمِنينَ بالمشرِكينَ؛ وفي هذا: أنَّ الأحكامَ لا تثُبتُ بكراهةِ النفوسِ ونُفُورِها، وأنَّ للنَّفْسِ كرهًا ونفورًا طبعيًا لا أثَرَ له على الأحكام، وهو ممَّا لا يُؤاخَذ به المؤمِنُ؛ ما لم يُعارِضِ الحقَّ الصريحَ بعدَ جلائِهِ بقولِهِ أو فعلِه.
وإذا وُجِدَ كُرْهُ لقاءِ المشركِينَ مِن بعضِ الصحابة، فذلك مِن غيرِهم
(١) أخرجه البخاري (٤٣٣٤)، ومسلم (١٠٥٩).