أصحابِهِ مُحتقِرًا لقُوَّتِهم وعَدَدِهم، وكان ذلك سببًا لقوةِ عزائمِ المؤمنينَ وقلوبهم، وثَبَاتِ أقدامِهم؛ فإنَّ القلوبَ إنْ ثَبَتَتْ، ثبَتْ تَبعًا لها البَدَنُ.
وفي هذه الآيةِ: وجوبُ ثباتِ أميرِ الجندِ؛ فبِثاتِهِ يثُبتُ أتباعُه، ومِن خوفِهِ يَخافون؛ لأنَّه يَعلَمُ مِن العدوِّ ما لا يَعلَمونَ، وَيعلَمُ مِن قوَّتِهم ما لا يَعلَمُونَ، فالجنديُّ يعلَمُ قوَّةَ نفسِه، لكنَّه لا يعلَمُ قوةَ حميعِ الجيشِ؛ ولهذا: ثَبَّتَ اللهُ نبيَّهُ بتقليلِ عددِ المشركينَ في عيَنْهِ ليَظهَرَ على وجهِه البِشْرُ والثباتُ والفرحُ، فلا تَغلِبَهُ الشَّفَقَةُ على نفوسِ المؤمِنينَ أن يُستأصَلُوا ويُبادوا، أو يُغلَبُوا ويُؤسَرُوا؛ قال تعالى في ذلك: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} قال مجاهدٌ: "لَفَشِلْتَ أَنْتَ، فَرَأى أَصْحَابُكَ فِي وَجْهِكَ الفَشَلَ، فَفَشِلُوا" (١).
تحقيرُ العدوِّ في أعْيُنِ الجُنْدِ:
وفي هذا: مشروعيَّةُ تحقيرِ قوَّةِ المشرِكينَ في أعيُنِ الجُنْد، تثبيتًا لعزائمِهم وقلوبِهم وأقدامِهم؛ فإنَّ الخوفَ والهَلَعَ عندَ التقاءِ الصفوفِ شديدٌ، وإذا كان المشرِكونَ أكثَرَ عَدَدًا وعَدَدَا، هُزِمَتِ النفوسُ ثُمَّ غُلِبَتْ، ونصرُ اللهِ لنبيِّه كان بقُوَّةِ القلوبِ أكثَرَ مِن قوةِ الأبدان، وهكذا أصحابُهُ مِن بعدِه.
وتحقيرُ العدوِّ وعَدَدِه وعَتادِهِ على نوعَيْنِ:
الأوَّلُ ة تحقيرُ العدوِّ لأجلِ التغريرِ بالجندِ؛ كمَنْ يحقِّرُ العدوَّ ويضعِّفُ قوَّتَهُ المُهلِكةَ في نفوسِ المؤمنِينَ؛ ليَثُبتَ المؤمنونَ على ما لا قِبَلَ لهم أنْ يثبُتُوا عليه لقِلَّةِ عَدَدِهم وعتادِهم، فيغرِّرُ بهم فيَهلِكونَ ويُؤسَرونَ.
فهذا لا يجوزُ؛ وهو مِن الكذبِ المُحرَّمِ؛ لأنَّ المَفسدةَ فيه ظاهرةٌ،
(١) "تفسير ابن أبي حاتم " (٥/ ١٧٠٩)