* قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠)} يوسف: ٧٠.
في هذه الآيةِ: جوازُ اسنعمالِ الحِيلَةِ لدفعِ الضُّرِّ وأخذِ الحقِّ البيِّنِ وإعادتِهِ إلى صاحِبِه، فيوسُفُ أحَقُّ بأخيهِ منهم، ولم يَقدِرْ أنْ يأخُذَ أخاهُ منهم ببيِّنةٍ، وإنَّما قدَرَ أن يأخذَهُ بتلك الحِيلةِ فأخَذَهُ.
وفي قوله تعالى: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وصفٌ للجميعِ وهو يَقصِدُ إخوانَهُ، وَيَحتمِل أنَّه خاطَبَهُمْ بالسرقة الحادثةِ وهو يُريدُ سرقتَهُم القديمةَ له مِن أبيهِ بتحايُلٍ عليه؛ فأرادَ أن يُعامِلَهم بمِثْلِ ذلك؛ فالجزاءُ مِن جنسِ العملِ.
واستعمالُ الحِيَلِ إنَّما هو سلوكٌ لطُرُقٍ خفيَّةٍ غيرِ معتادةٍ ولا يُتفطَّنُ لها إلَّا بذكاءٍ؛ لأخذِ الحقِّ ودفعِ الظُّلْمِ عندَ العجزِ عن ذلك بالطرُقِ المعروفة، وسلوكُ تلك الطرُقِ الخفيَّة لا يَلزمُ منه كونُها محظورةً بعَينِها؛ وإنَّما المَأْخَذُ فيها أنَّها خفيَّةٌ لا يظُنُّ الخَصْمُ أنَّها مقصودةٌ، فيتعاملُ معها على اعتقادٍ ظاهرٍ يُخالِفُ الباطنَ.
وقد تكونُ الحِيَلُ مباحةً، وقد تكونُ محرَّمةً؛ وذلك بحسَبِ النظرِ إلى الغايةِ ونوعِ الوسيلةِ، فبالنظرِ إلى هاتَيْنِ الجهتَيْنِ تُعرَفُ مَرتبةُ الحِيَلِ بين الحِلِّ والحُرْمةِ، والوجوبِ والكراهةِ والاستحبابِ.
ولمَّا كانتِ الحِيَل أخذًا بغبرِ الظاهر، كَرِهَها كثيرٌ مِن السلف، ولم يكونوا يكتبُونَ فيها ولا يُعلِّمونَها الناسَ؛ فليست عِلمًا يُتَّخَذُ أصلًا في التعامُلِ وأخذِ الحقوق، فمَن جعَلَهُ أصلًا في تعامُلِه وخصوماتِهِ وقَعَ في المنهيِّ عنه بلا ريبٍ.
وأسوأُ الحِيَلِ: التي تُتَّخَذُ للوصولِ إلى ما حرَّمَ اللَّهُ؛ كالتحايُلِ على