فِعْلِه، ولم يَسبِقْ فِعْلَهُ عِلْمٌ؛ كشربِ الخمرِ والزِّنى والقذفِ ونحوِها، فناسَبَ دعوةَ الناسِ إلى الإقرارِ بها قبلَ إنزالِ الحدِّ على المتجاوِزِ لها وعقوبتِهِ على جُرْمِه، وبيئةُ العربِ قبلَ الإسلامِ بيئةٌ طُمِسَتْ فيها معالمُ الشرائعِ السابقةِ، فجاءتِ الشريعة بالتدرُّجِ بالبيانِ أولًا - حتى يستقِرَّ في النفوسِ - ثمَّ بالعقوبةِ.
ولمَّا استقرَّتِ الشريعةُ، وأحكَمَ اللهُ تنزيلَهُ، وأكمَلَ الدِّينَ للأمَّةِ، أوجَبَ على الأمَّةِ العملَ بكتابِهِ كلِّه ما أمكَنَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما لم يُقِمِ الحدَّ لأنَّه لم يُؤمَرْ به، ولو أُمِرَ له لأقامَهُ، ولا يَسَعُه إلا ذلك، ولكن اللهَ حكيمٌ في تشريعِهِ، لطيفٌ بعبادِه؛ حيثُ أَجَّلَ إنزالَ الحدودِ وتدرَّجَ سبحانَهُ في ذلك، ولو كان المسلِمُ في حالٍ كحالِ النبيِّ في مكةَ في بيئةٍ يكونُ فيها مغتربًا في دينِه، ولا يُوافِقُهُ على عقيدتِهِ كبيرُ أحدٍ، فَلْيَدْعُ الناسَ إلى الإقرارِ بالحقِّ قبلَ الأمرِ بإقامةِ الحَدِّ على صاحِبِ الجُرْمِ؛ لأنَّ العقوبةَ على ذنبٍ لا يُعلَمُ كونُه ذنبًا: تنفيرٌ مِن التصديقِ به.
حكمُ مَنْ كانت حالُهُ كحالِ النبيِّ في مكة:
والحاكمُ الذي يَستولِي على بلدٍ غيرِ مسلِمٍ، أو اندثَرَتْ معالمُ الإسلامِ فيه، ينبَغي أنْ يعلِّمَهم أمورَ الدِّينِ تدرُّجًا كما تدرَّجَ في تعليمِها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمشرِكِينَ، وألَّا يعلِّمَهم الإسلامَ جملةً أصولًا وفروعًا؛ حتى لا يَنفِرُوا منه؛ لأنَّ الحاكمَ خليفةُ اللهِ في الأرضِ، ويتولَّى تطبيقَ دينِهِ كما يُريدُهُ اللهُ، لا كما تَهْواهُ النفسُ بعَجَلةٍ أو تهاوُنٍ.
أحوالُ المسلمين، وحكمُ تحكيم الشريعة في كلِّ حالٍ:
وجماعةُ المسلِمينَ غالبًا على حالَيْنِ:
الحالُ الأُولى: حالةُ انتظامِ الدولةِ، وثباتِ الأمرِ، واستقرارِ النظامِ:
ففي هذه الحالةِ: لا يجوزُ لحاكمٍ أنْ يحكُمَ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ؛ إذا